كرة القدم كمرآة للوعي الوطنى السوداني : لماذا اكتسبت خسارة الإمارات معنى سياسيًا؟

في مساء الثامن عشر من نوفمبر ٢٠٢٥، بدا المشهد في عدد من المدن السودانية استثنائيًا. خرجت مجموعات من المواطنين إلى الشوارع، ارتفعت الهتافات، وظهرت مقاطع مصوّرة في أماكن متفرقة من السودان تُظهر ابتهاجًا جماعيًا عقب خسارة منتخب الإمارات أمام العراق في ملحق تصفيات كأس العالم. كان الأمر للوهلة الأولى مجرد تفاعل كروي تلقائى، لكنه فعليا لم يكن كذلك؛ فقد تعامل معه قطاع واسع من السودانيين كلحظة رمزية تعكس شعورًا متراكما منذ اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣.
هذا الشعور لم يكن احتفالًا بانتصار منتخب عربي على آخر، بل كان تعبيرًا عن حالة رفض وغضب مكتوم تجاه دور خارجي يُنظر إليه كمؤثر سلبى في مسار الحرب التي أرهقت البلاد. وفي ظل السياق السوداني الحالي المليء بالذاكرة القريبة للحرب وآثارها، تحولت المباراة إلى مساحة للتعبير عن موقف سياسي واجتماعي عميق دون تكلفة مباشرة.
من علاقة طبيعية إلى أزمة ثقة:
لأكثر من عقدين، ارتبطت الإمارات في الوعي الجمعي السوداني بصورة إيجابية نسبيا: دولة تستقبل العمالة، وتموّل مشروعات زراعية، وتفتح خطوط طيران نشطة، وتظهر كشريك اقتصادي مهم. كانت العلاقة مستقرة رسميًا وشعبيًا، رغم التعقيدات الإقليمية المترتبة على نوايا أبوظبى الخفية.
لكن مع اندلاع الحرب التى أوقدت نارها مليشيا الدعم السريع، تغيّرت الصورة بسرعة. فابتداءً من منتصف عام ٢٠٢٣، وثّقت تقارير لجنة الخبراء التابعة لمجلس الأمن للأمم المتحدة دعمًا لوجستيًا وعسكريًا قدّمته الإمارات للمليشيا عبر مطار أم جرس في تشاد. هذه الاتهامات استندت إلى بيانات وشهادات ميدانية وصور أقمار صناعية. ورغم النفي الإماراتي المتكرر، فإن المجتمع السوداني – الذي شهد النزوح الجماعي والمجازر في الفاشر ومناطق أخرى من الوطن – ربط هذه الوثائق مباشرة بتفسيره للأحداث، وبات اسم الإمارات مرتبطًا، لدى كثيرين، باستمرار الحرب
الوعي الجمعي السوداني تجاه القوى الإقليمية: نظرة مقارنة بين الأمس واليوم:
لفهم ما حدث مساء المباراة، يمكن العودة إلى محطة تاريخية هامة: مباراة مصر والجزائر في أم درمان عام ٢٠٠٩. آنذاك، كان المزاج الشعبي تجاه مصر معقّدًا، مزيجًا من التقارب التاريخي والحساسية تجاه ما يُنظر إليه كتعال إعلامي و رسمي مصري. ومع ذلك، لم يكن رد الفعل السوداني عدائيًا، وكان أقل حدّة مما روجت له بعض وسائل الإعلام المصرية أنذاك.
اليوم، رغم التعقيدات السياسية، اكتسبت مصر موقعًا أفضل لدى الوعي الجمعي السوداني مقارنة بما كان عليه قبل عقد ونصف، لأسباب أربعة:
١. دعم سياسي واضح لمؤسسات الدولة السودانية، و لأمن السودان و استقراره، ووحدته وسلامة أراضيه.
٢. موقف مصري يُنظر إليه كموقف أقرب للمصلحة السودانية العامة.
٣. الحفاظ على خطوط الاتصال بين الخرطوم والقاهرة بنمط أكثر انتظامًا مقارنة بالنمط القائم بين السودان و قوى إقليمية و دولية أخرى.
٤. تفاعل شعبى مصرى أصيل بلا تكلف مع السودانيين فى مصر على امتدادها الجغرافى، بصورة أعطت قبلة حياة لأشواق التكامل بين شطرى وادى النيل.
في المقابل، تغيّر المزاج تجاه الإمارات بشكل واضح: من دولة صديقة إلى طرف يُحمّل بدرجات متفاوتة مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن مآسي الحرب التي أشعلتها مليشيا الدعم السريع. هذا التحوّل لا يعكس السياسة وحدها، بل الذاكرة الشخصية؛ فكل سوداني تقريبًا يعرف قصة نزوح أو فقد أو انتهاك، ومع كل قصة تتراجع صورة الإمارات هبوطا “دركات”.
لماذا تحوّلت مباراة كرة القدم إلى رمز؟
يتشكّل الوعي الجمعي تجاه أية دولة أجنبية عبر آليات معروفة في العلوم السياسية والاجتماعية:
١. التجربة الشخصية المباشرة: قياس السياسات بآثارها على حياة الناس، وليس بخطابها الرسمي.
٢. الرواية المتداولة: ما يتناقله الناس في البيوت والأسواق و الشارع العام ووسائل التواصل الاجتماعي.
٣. الصدمة الجماعية: الحروب تخلق ذاكرة موحّدة حتى بين مجتمعات متباعدة.
٤. الرموز : أي حدث، ثقافى أو رياضي أو سياسي، قد يتحول إلى مرآة لمزاج شعبي عميق.
في الحالة السودانية، ساعدت الحرب في توسيع فجوة الثقة بين المجتمع السودانى وبعض القوى الإقليمية والدولية، وأصبح أي حدث مرتبط بدولة يُعتقد أنها طرف في الحرب فرصة للتعبير عن المزاج الشعبى. عندما خسر المنتخب الإماراتي في الدقائق الأخيرة، لم يكن السودانيون يراقبون كرة القدم فحسب، بل كانوا يشاهدون هزيمة رمزية فى العلن لطرف خارجي بعد عامين ونصف من شعورهم بأن الظلم الذي تمارسه مليشيا الدعم السريع بدعم من هذا الطرف ينتصر عبر صناعة الوهم في الخفاء.
الرمزية والواقع السياسي:
الفرح الذي تم التعبير عنه فى بعض المدن السودانية لم يكن عداءً لشعب بعينه، ولا شماتة في فريق كرة قدم، فهذه ليست و لم تكن يوما من شيم إنسان السودان، بل كان لحظة تعبير نفسي عن امتلاك المجتمع صوتًا، حتى لو كانت ميادين السياسة مغلقة بسبب ظروف الحرب.
هذه اللحظة لا تغيّر حقيقة أن السودان ما زال بحاجة إلى معالجة سياسية واجتماعية أعمق لعلاقاته مع القوى الإقليمية. فالتغير في الوعي الجمعي يمكن أن يتبدل بقدر ما تتغير السياسات، ويمكن للجراح الغائرة أن تلتئم إذا اتجه السلوك الإقليمي و الدولى نحو دعم الاستقرار بدلا من تعميق الصراع.
خاتمة:
ما حدث مساء المباراة ليس حدثًا رياضيًا معزولاً، بل إشارة إلى تحول عميق في وجدان السودانيين تجاه الأطراف المؤثرة سلباً فى الحرب. الرموز البسيطة، كهدف في الدقيقة الأخيرة، تكشف عن مشاعر مجتمع ما زال يعيش واحدة من أشد أزماته منذ الاستقلال.
السودانيون لم تحرك مشاعرهم هزيمة منتخب فحسب، بل عبّروا، ولو للحظة، عن جرحهم بصوت مسموع، مؤكدين أن إدراكهم للسياسة الإقليمية يتشكل عبر التجربة الشخصية، الرواية المتداولة، والصدمات الجماعية، وأن أي مستقبل للعلاقات الإقليمية يتحتم أن يستصحب هذا المزاج الشعبي العميق و الحس الوطنى المرهف.



