الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

قلوب مطمئنة


في زحام هذا العالم المتسارع، تبقى بعض القلوب بمثابة مأوى دافئ، وملاذ هادئ لمن أنهكهم الضجيج. قلوب لا تحتاج إلى كثير من الكلمات، لأنها اختارت أن تقول كل شيء بصمتها العميق، وتربت على الأرواح المنهكة بكلمة صادقة واحدة كفيلة بأن تعيد ترتيب الفوضى داخلنا، كأنها تصدق وعد الله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد:27]، فتكون الطمأنينة من بين أيديهم رحمةً تتسلل إلينا حين تضيق بنا الدنيا.

إن أجمل ما في بعض القلوب أنها تعرف متى تصمت ومتى تنطق، تعرف كيف تحتوينا دون أن تحاصرنا، وكيف تحبنا دون أن تربك أرواحنا بأسئلة لا تنتهي. هناك محبّون يكتبون رسائلهم بنظرة مطمئنة، أو بلمسة حانية، أو بصبرٍ جميل لا يملّ الانتظار، ممتثلين قول النبي ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». هؤلاء يرممون كسورنا الصغيرة بكثير من الهدوء وكأنهم يقولون لنا: «أنا هنا مهما تغيّر العالم».

ليس شرطاً أن يكون الحب ضجيجاً متواصلاً من الكلمات، بل قد يكون أعمق حين يُختصر في نظرة صادقة، أو حضن دافئ، أو لحظة صمتٍ مشترك تحكي فيها الأرواح ما لا تقدر عليه الحروف. ولعل بيت الشعر يقولها ببساطة شديدة:
«وما الحبُّ إلا أن تَكونَ بقُربِهمْ.. وإن بَعُدَتْ دُنياكَ عن دُنياهمُ»
فبعض القلوب تُرممنا حين لا نتوقع الترميم، وتطمئننا حين نظن أن الطمأنينة بعيدة.

وفي هذه الأيام العصيبة التي نمر بها نحن أبناء هذا الوطن، نحتاج أن نكون لبعضنا قلوبًا مطمئنة، تظللنا بالمحبة وتحتوينا بالصبر والرحمة. نحتاج أن نُرمم بعضنا بعضًا، وأن نُحسن الظن، وأن نحمل بعضنا على الأمل لا على الخوف، فبعض الدفء الذي نهبه لبعضنا قد يكون كافيًا لينقذ أرواحًا كثيرة من الانكسار.

ومن هنا، فإن من واجبنا أن ننبذ تلك الأصوات التي تسعى إلى إخافة الناس من العودة إلى وطنهم، أو تصدهم عن حضن بلادهم. علينا أن نزيل كل ما يعرقل رجوع من هاجروا، وأن نمد لهم جسور الطمأنينة والدعم، وأن نشجعهم على الاستقرار والبناء والمشاركة من جديد، فما الوطن إلا بأهله، ولا يُزهر إلا إذا عاد إليه أهله بقلوب مطمئنة وأيادٍ تبني ولا تهدم.

والأجمل من كل ذلك، أنّ هذه القلوب لا تمنّ علينا بما تعطينا، ولا تطالبنا بسداد دين المحبة، لأن عطاءها ليس صفقة ولا مصلحة، بل نبعٌ صافٍ لا يعرف التصنع. هي القلوب التي لا تثرثر كثيراً لكنها تحكي كل الحكاية حين نلتقي بها، فنخرج من عندها أخفّ ألماً وأغنى حُبّاً وأكثر تصالحاً مع أنفسنا.

سلامٌ على كل قلبٍ يُحبّنا كما نحن، يُربّت على أرواحنا المتعبة دون أن يُشعرنا بثقل ما نحمل، ويظل سنداً لا ينكسر مهما قست الظروف. ولعل بقاء مثل هذه القلوب حولنا أعظم نعمةٍ تستحق الحمد كل ليلة.

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!