الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

قصص متداخلة

د. امجد عمر


حياة كل فرد هي قصة فريدة، خيوطها تنسجها الأيام، وتتخللها لحظات من الصعوبة، وبعض من الألم والمعاناة. لم يولد أحد وفي جعبته كل الأحلام متحققة، ولا عاش أحد دون أن يخسر شيئًا في طريقه نحو أهدافه. كثيرون يمضون في الحياة بأمنيات لم تكتمل، وطموحات لم تتحقق، ورغم ذلك نجدهم يحتفظون بشيء من الرضا عمّا أنجزوه، وكأنهم يوقنون أن الكمال ليس شرطًا للسعادة. إن في الرضا قبولًا صامتًا بما هو متاح، وتقديرًا لما تحقق رغم الظروف، وهو شعور ينشأ حين يدرك الإنسان أن السعي ذاته يحمل معنى، حتى إن لم يصل إلى كل ما أراده.

هذه القصة الفردية لا تعيش في عزلة. كل شخص هو بطل في حكايته، لكنه أيضًا شخصية ثانوية في حكايات الآخرين. تتقاطع الطرق، وتتشابك الخيوط، ويصبح من المستحيل أن نفصل قصة أحدهم عن محيطه. نحن جزء من قصص من حولنا، وهم كذلك جزء من قصتنا، فلا أحد ينسج حكايته بمفرده، ولا يمكن لأحد أن يرسم كل تفاصيل قصته دون أن يكون هناك أثر للآخرين فيها. فكل تفاعل، مهما بدا عابرًا، يترك بصمة في مسار القصة، وقد يكون وجود شخص ما في لحظة فارقة سببًا في تغيير مسار حياة كاملة، دون أن يعي ذلك.

ومع ذلك، فإن هذه الروابط لا تمنح أحدًا القدرة الكاملة على فهم القصة كما عاشها صاحبها. قد نسمع التفاصيل، وقد تُروى لنا الأحداث بدقة، لكن المشاعر التي رافقت كل موقف تبقى حبيسة اللحظة التي وُلدت فيها. الموقف الذي بدا مخيفًا ربما لم يولد الخوف في نفس من عاشه، واللحظة التي بدت عادية قد تحمل في طياتها انفعالًا عميقًا لا تدركه العين المجردة. فالتجربة ليست في الحدث ذاته، بل في الشعور الذي رافقه، وهذا ما يجعل لكل قصة بعدًا لا يُنقل بالكلمات.

ومن المهم أن نتفهم ما مرّ به كل من نلتقيهم في حياتنا، فخلف كل ابتسامة قد يكون وجع مكتوم، وخلف كل صمت قصة طويلة لا نعرفها. هناك دائمًا شيء ما خفيّ عنا، فلا نظنّ أننا نعلم كل شيء، ولا نتسرع في الحكم. إن الرحمة بيننا واجبة، لأن كل إنسان يكابد في هذه الحياة بطريقته الخاصة. وقد لا يكون في مقدورنا أن نحلّ مشكلات الآخرين، لكن يمكننا ألا نزيدها، يمكننا ألا نثقل كاهلهم بأفعالنا أو كلماتنا أو حتى نظراتنا. من الظلم أن نكون عبئًا إضافيًا على قلوب أرهقتها الحياة، ومن الإنسانية أن نكون سندًا لا عبئًا. علينا أن نعي أن ما تبقى من قصة كل شخص قد يكون فيه من المعاناة ما يكفي، أو من السعادة ما يستحق أن يُعاش، لكن الأهم أن نُخفف الألم، ونكون مصدر راحة وسكينة. وكما قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” [البقرة: 83]، فالكلمة الطيبة قد تكون بلسمًا، والرفق في التعامل بابًا للتخفيف عن الأرواح المتعبة. ويؤكد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “من نفّس عن مؤمن كربة من كُرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة” [رواه مسلم]. فكم من نفس تنتظر كلمة رحيمة أو موقفًا نبيلًا ليواصل السير، وكم من ثقل يمكن رفعه بلين ورحمة.

ولا عجب أن قيل في المثل السوداني: “الضهر ما بتشال فوقو حملين”، فكل إنسان يحمل على ظهره ما يكفيه، فلا تكون أنت الحمل الثاني. وكذلك ما يقال: “الكلمة الطيبة جواز سفر”، فهي مستند عبور إلى قلوب الآخرين، تمنحك القبول لاحتضانك بداخلهم، وتفتح لك الأبواب دون استئذان. وربما كلمة واحدة تُقال بلطف في لحظة ضعف، تكون سببًا في استعادة التوازن والقدرة على الاستمرار.

كما عبّر الشاعر قديماً:

وإن ضاقت عليك الأرض يومًا
ففي خلق الكريم لك اتساعُ

لذلك، من المهم أن نتعامل مع الآخرين بقدر من التواضع الإنساني، مدركين أننا لا نعرف كل شيء، ولا نفهم تمامًا ما مرّوا به. كل إنسان يسير بقصة معقدة، مليئة بالتفاصيل التي لا نراها. واحترام هذه القصة، حتى لو لم نفهمها، هو أبسط أشكال التعاطف. ومن الحكمة ألا نسارع إلى إصدار الأحكام، بل نمنح الآخرين مساحة أن يكونوا كما هم، محمّلين بتجاربهم، وذكرياتهم، وصراعاتهم التي لا تظهر على السطح، لكنها تصنع جوهرهم في العمق.

اترك رد

error: Content is protected !!