الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

في رثاء السفير الأديب عبدالله الأزرق : و رحل (الأزرق) الدفَّاق

د. اسامة محمد عبدالرحيم

عرفته منذ حوالي عقدين من الزمان، منذ اول وهلة و من اول لقاء ، ترك في نفسي انطباع يشبه ما يعتريك عند التقاء الاماكن و الشخوص الخالدة في عمق التاريخ، اليوم وفي فجرٍ كئيبٍ من صباحات السودان الملأى بالافراح حيناً و الاتراح احياناً، غاب وجهٌ من وجوه العمل و الفكر والصدق والاتزان، وانطفأت شعلةٌ كانت تلتمع وسط عتمة النفاق والمواربة. رحل عبدالله الأزرق كما يرحل النيل العظيم و كما يمضي الأزرق الدفاق، لا كأي راحل، بل كواحدٍ من القلائل الذين تركوا في الحبر ظلًّا، وفي النفوس أثرًا، وفي الذاكرة حضورًا لا يبهت.

لم يكن عبدالله الأزرق مجرّد دبلوماسي يتقلّد المناصب، بل كان ضميرًا ناطقًا داخل عباءة الدولة و فضاءات المجتمع، كان صوتاً صافياً وسط صخب الأجندات والاصطفافات. نذر قلمه للكلمة الحرة، ولسانه للقول الصادق، وروحه للوطن الذي ظلّ يسكنه حتى آخر لحظة، وهو يُقاوم المرض كما يقاوم الأحرارُ الظلمَ؛ بصبرٍ لا يئنّ، وعزيمة لا تلين.

في زمنٍ عزّت فيه الرموز، وتميعّت فيه المعاني، ظل الأزرق رمزاً لما يجب أن يكون عليه المثقف السوداني ذو الضمير الحي، لا تابعاً، ولا مداهناً، ولا صفيقاً. كان يحترم اللغة كمنبر مقدّس، ويغزل مقاله و قوله كما يغزل المتصوفون أورادهم؛ بأدبٍ، وصدقٍ، ووقارٍ.

كتب في السياسة من موقع الناقد الحصيف، لا من مقعد المزايد أو المغامر. كتب في الثقافة كمن يرى السودان فكرةً قبل أن يكون تراباً. وكتب في الهمّ العام من قلبٍ يفيض بالوجع، لا بالضغينة. لم يكن خصيماً لأحد، لكنه لم يساوم في قول الحق، حتى في حضرة السلطة، وحتى وهو على سرير المرض، بين الحياة والموت.

لقد عرّفنا عبدالله الأزرق على وجهٍ آخر للدبلوماسية السودانية، وجه الحكمة المتأصلة، والعقل المتزن، والبصيرة التي ترى ما بعد الجدران المغلقة. لم تكن منازله سفاراتٍ باردة، بل ملتقيات فكرية حافلة، وبيوتًا عامرةً بالدفء الإنساني، والتواضع النبيل، والانفتاح على كل طيفٍ سودانيٍ.

ومن القضارف الي الخرطوم و من كينيا إلى لندن، ومن استانبول إلى القاهرة، و في كل العواصم التي عاشها و عاشته و التي ظلت تشهد له بالحضور المحترم و التميز الموجب، ظل حضوره مؤنساً للطلاب، ومُلهماً للشباب، وملجأً للفكر السوداني الحر. كان مثقفاً من “طينة الكبار”، كما قال من رثوه، ممن تتواءم فيهم فراسة البطانة وهدوء المجاذيب، وحكمة الدامر وسمت القضارف.

جاء من بيتٍ مشبعٍ بالعلم والقرآن، من حيّ “الأزرق” في القضارف الذي لا تُخطئه بوصلات الذاكرة، وتفتّحت مداركه في بيئةٍ تشربت التهذيب والصلاح، فكان امتداداً لجيلٍ من العلماء والمجاهدين، الذين لا يرفعون صوتهم إلا بالحق، ولا يسعون إلى المناصب، بل تُساق إليهم لأنهم لها أهل بالكفاءة.

ولئن أبكاه الوطن في أزماته الأخيرة، فإنه لم ييأس، ولم ينعزل، بل ظلّ ينافح بالكلمة، ويربي بالأمل، ويواسي بالعقل، ويكتب من على فراش المرض كأن الألم حبرٌ، والوجع فكرة، والعزلة عزٌّ.

لقد ترجل فارس الكلمة، لكن صهيله سيبقى في ذاكرة من قرأ له، أو جالسه، أو سمعه، أو ابتسم له في مجلسٍ ما. سيبقى الأزرق حيّاً بما كتب، وبما زرع، وبما مثّل من نموذج نادر في زمن الابتذال.

رحم الله السفير عبدالله الأزرق، بقدر ما أحب السودان وأهله، وبقدر ما أخلص لقلمه وقيمه، وبقدر ما تحمّل بصمتٍ وأدب ما يعجز عنه الصابرون.

وإنا لله وإنا إليه راجعون

اترك رد

error: Content is protected !!