من اعماقي / د. امجد عمر

فنّ النقاش


بقلم: د. أمجد عمر محمد

النقاش والحوار هما من أقدم أدوات التفاهم بين البشر، وهما ليسا مجرد تبادل للأفكار أو الآراء، بل ممارسة راقية تهدف إلى الوصول إلى فهم مشترك أو حل عقلاني. فالنقاش يُعبر عن تبادل منطقي ومنظّم لوجهات النظر، أما الحوار فهو مساحة مفتوحة للتفاهم تقبل الاختلاف وتحتفي بالتنوّع. وتكمن أهمية الحوار المجتمعي في كونه حجر الزاوية في تشكيل وعي جمعي متماسك، يُسهم في تهدئة التوترات، وتحقيق التوازن، وترسيخ ثقافة الاحترام والتعايش.

وعلى مستوى الأفراد والمجتمعات، يُعدّ الحوار وسيلة فعّالة لبناء السلام الداخلي، وتحقيق الانسجام الاجتماعي. حين يجد الأفراد والجماعات مساحة حرة وآمنة للتعبير عن آرائهم، دون خوف أو وصم، تتقلص فرص التصادم، وتُفتح آفاق أوسع للتفاهم. فالحوار المجتمعي لا يحل النزاعات فقط، بل يمنعها من التكوّن في الأساس، ويزرع ثقافة قائمة على الاحتواء لا الإقصاء، وعلى التكامل لا التفاضل. لذلك، فإن غياب الحوار الحقيقي يؤدي غالباً إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وازدياد سوء الفهم، وتمدد النزاعات الصامتة.

وفي كثير من الأحيان، يدخل بعض الأشخاص إلى النقاشات وقد رسموا في أذهانهم سيناريو محكماً لما يُفترض أن يُقال. لا ينتظرون رأياً مختلفاً، بل يتوقعون أن تتماشى كلماتك مع تصوراتهم المسبقة. وحين تُفاجئهم برأي غير متوقع، يحدث نوع من الارتباك اللحظي: الرد الجاهز يتجمد في الحلق، والسيناريو الذي أعدوه داخلياً يبدأ في الانهيار.

ما يلبث هذا الارتباك أن يتحول إلى نوع من المكابرة، حيث يصعب على البعض الاعتراف بأنهم تسرعوا في إطلاق الأحكام، أو أنهم ربما لم يفهموا حديثك من الزاوية التي كنت تقصدها. هنا، يتحرك في داخلهم دافع نفسي أشبه بآلية دفاع عن الذات، عنوانه: “لا تَظهر في موقف الضعف”، حتى وإن كان الموقف لا يتطلب سوى بعض التواضع وسعة الصدر.

لكن الحقيقة أن الاعتراف بخطأ في الفهم، أو التراجع عن موقفٍ تم اتخاذه على عجل، ليس ضعفاً بأي حال. بل على العكس، هو علامة على النضج والثقة بالنفس. فالشخص الذي لا يرى في تغيير رأيه هزيمة، هو الأكثر قوة، لأنه يملك الشجاعة لمواجهة ذاته أولاً، قبل أن يواجه الآخر.

النقاش، في جوهره، ليس ساحة لمعركة تنتصر فيها الذات، بل هو مساحة للتبادل الفكري، ومجال رحب لتلاقح الآراء واختبار الحجج والمنطق. ولهذا، فإن النقاش الجيد لا يحتاج فقط إلى رأي، بل يحتاج إلى مهارات متعددة تتضافر في لحظة واحدة: الحضور الذهني، التحضير المسبق، امتلاك المعلومة، وطلاقة اللسان.

وهنا تبرز أهمية إدارة النقاش بأسلوب يُشجّع على تلاقح الأفكار لا التصادم بينها، فحين تُدار الحوارات بروح التبادل المعرفي، يُصبح النقاش أرضاً خصبة تتولد فيها أفكار جديدة لم تكن مطروحة في الأصل. ويتجلى هذا الدور المحوري للنقاش البنّاء بشكل خاص عند التعامل مع المشكلات أو البحث عن حلول واقعية، حيث تتيح وجهات النظر المختلفة الوصول إلى رؤى أكثر شمولاً وابتكاراً. أما في ميادين المعرفة والتعليم، فإن النقاش لا يقل أهمية، إذ يُعتبر أداة أساسية في بناء الفهم المشترك وتوسيع المدارك، لا مجرد حلبة لإثبات صحة الرأي.

ومن هنا، تظهر القيمة الجوهرية للحوار، فهو ليس مجرد تبادل للكلمات، بل وسيلة للتقارب وبناء الجسور بين العقول. نحتاج إلى الحوار حين تختلف الآراء، ونلجأ إليه عندما تتعقّد المسائل وتحتاج إلى عصفٍ ذهني جماعي، ونُحسِن استخدامه حين نسعى لبناء مجتمع متماسك ومتسامح. فالحوار البنّاء يسهم في إذابة التوتر، ويُعلي من صوت العقل، ويزرع ثقافة الاحترام والتعايش بين المختلفين. وقد دلّت على ذلك دعوة القرآن الكريم في قوله تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” [فصلت: 34]، فهي دعوة للحكمة في الجدال، واللطف في الرد، وسعة الصدر في التعامل مع الآخر مهما كان مختلفاً.

وفي السنة النبوية نجد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد بيّن أهمية ترك الجدال العقيم، فقال: “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً” [رواه أبو داود]. وهذا الحديث يكشف عن جوهر النقاش الهادف: ليس إثبات الغلبة، بل إيثار الحكمة، ومراعاة القلوب، وتقديم الأهم على المهم.

والأهم أن نعي تماماً أن النقاش ليس ساحة يغادرها طرف مهزوماً وآخر منتصراً، بل هو سعي مشترك نحو فكرة ناضجة تخدم الهدف، وتثري الموضوع، وتحمل في طيّاتها حلاً أو وعياً أوسع. حين يتحول النقاش إلى منافسة شخصية، يفقد روحه وجدواه. أما حين يكون وسيلة للبحث عن الأنفع، يتحول إلى أداة تغيير وبناء وتطوير الاسره والعائلة والمجتمع.

في النهاية، إن الحوار ليس ترفاً، بل ضرورة اجتماعية ومعرفية. به تُبنى الجسور، وتُحلّ الإشكالات، وتُصاغ الحلول. وهو مساحة إنسانية تُتيح لكل طرف أن يُعبّر عن رأيه دون خوف أو تحفظ، في جو من الاحترام المتبادل والنية الصادقة في الفهم والتطوير. الحوار لا ينبغي أن يكون منصة لإثبات الذات أو كسر الآخر، بل ورشة فكرية نخرج منها بفكرة تُقرّبنا من الصواب وتُحقق المصلحة المجتمعية العامة.

فلنكن في نقاشاتنا أكثر وعياً وهدوءاً، نحترم الرأي والرأي الآخر، ونقدّر اختلافنا كوسيلة إثراء لا تهديد، ولنجعل من كل حوار فرصة للارتقاء بالفكر والسلوك، لا مجرد معركة كلامية. فالنقاش الهادف لا يُهزم فيه أحد، بل يربح الجميع، وتُثمر ثماره فينا وعبرنا، نحو مجتمع أكثر فهماً وسلاماً وتقدماً.

اترك رد

error: Content is protected !!