الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

فاشر السلطان : محرقة الجنجويد و منارة الصمود

د. اسامة محمد عبدالرحيم

في قلب دارفور، وعلى تخوم الجرح السوداني المفتوح، تقف مدينة الفاشر كجبلٍ من الكبرياء، تحاصرها النيران من كل الجهات، لكنها تأبى أن تنحني أو تنهار. فمنذ أكثر من عامين، والفاشر تخوض معركة وجود، في مواجهة حصار خانق و مدعوم، فرضته مليشيا الدعم السريع المتمردة، التي حولت المدينة إلى هدف دائم لهجماتها الوحشية، وارتكبت خلالها فظائع ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

ووسط هذه النيران المتشابكة، سطعت أدوار وطنية مشرفة و جديرة بالاحترام و التقدير ، على رأسها الادوار التي قام بها الجيش و القوات النظامية السودانية، وإلى جانبهم الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق جوبا للسلام بالاضافة للمقاومة الشعبية و المستنفرين متجمعين فيما عرف بالقوات المشتركة ، والتي كان لمقاتليها وقادتها دور محوري في حماية المدينة والتصدي لهجمات المليشيا المتكررة. وقد أثبتت تلك الحركات، وعلى رأسها حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة د. جبريل إبراهيم، التزامًا واضحًا بحماية المدنيين والدفاع عن الفاشر، مما عزز من تماسك الجبهة الداخلية وأسهم في بقاء المدينة صامدة حتى اليوم.

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023م، اتخذت المليشيا المتمردة من العنف الممنهج أداة للسيطرة، فاجتاحت المدن، ودمّرت البنية التحتية، ونهبت الممتلكات العامة والخاصة. أما في دارفور، فقد كان الوجه الأشد بشاعة لهذا الصراع، حيث استهدفت المليشيا السكان بهوياتهم القبلية، ومارست أبشع صنوف الانتهاكات، من القتل الجماعي والاغتصاب، إلى الحرق والسلب.

لقد كان نصيب و قدر مدينة الفاشر ، حاضرة شمال دارفور، أن تتحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة، دفعت فيها أرواح الأبرياء ثمناً باهظاً، ودُفنت تحت ركامها قصص مئات الآلاف من النازحين واللاجئين والمهاجرين قسرًا. حيث لا تزال الفاشر تحت الحصار و القصف المدفعي و هجمات المسيرات، و ظلت تصد محاولات العدو البائسة من كل اتجاه و بكل طريقة دون جدوى في ملحمة خالدة. تلك هي الفاشر التي هلك على اسوارها و سهولها و وديانها آلاف الاوباش، و قتل بين ازقتها و حواريها ارتال من الجنجويد و المرتزقة، هذه هي الفاشر التي ابتعلت في جوفها هؤلاء المتآمرين و المعتدين عليها و التي كلما سألوها هل امتلأت ؟ تقول في صلف و عزة هل من مزيد؟

دخل حصار مدينة الفاشر عامه الثاني، في ظل صمت دولي مريب، وتخاذل إنساني فاضح. حيث طوقت المليشيا المتمردة المدينة من كل الجهات، وقطعت عنها الإمدادات، ومنعت دخول الغذاء والدواء، لتُحوِّل حياة المدنيين إلى جحيم، مشكلة اسوا جريمة تجاه الانسان و رسمت اقسى معاناة يمكن ان يواجهها بشر . ومع كل ذلك، فقد شنت المليشيا المتمردة حتى اليوم أكثر من (212) هجومًا عسكريًا مباشرًا، لكنها فشلت جميعها في اقتحام المدينة أو إسقاطها بفضل الله ثم بفضل البسالة و الصمود الذي تحلت به القوات المدافعة .

لقد سعت المليشيا في دارفور عموما و الفاشر على وجه الخصوص لإبادة جماعية مكتملة الأركان، مارست خلالها سياسة الأرض المحروقة، وانتهكت كل قواعد الاشتباك المعروفة في القانون الدولي الإنساني. وكان الاستهداف العرقي لقبيلة المساليت أحد أبرز جرائمها، حيث قتلت المئات من أبناء القبيلة، بينهم والي غرب دارفور الأستاذ خميس أبكر، في جريمة هزت الضمير العالمي، لكنها لم تجد من يردع الجناة.

وعلى الرغم من تفاقم الأوضاع الإنسانية داخل المدينة، حيث يعيش عشرات الآلاف تحت الحصار في ظل انعدام الغذاء، وشح الأدوية، وانهيار النظام الصحي والخدمي، ظل العالم يتفرج. تجاهلت المنظمات الدولية النداءات العاجلة، وفضلت العواصم الكبرى إصدار بيانات قلقة، دون أي تحرك فعلي ينقذ ما تبقى من حياة في هذه المدينة الصامدة.

وسط هذا الجحيم، وقف الجيش السوداني، ومعه القوات النظامية المشتركة والمتعاونة، سدًّا منيعًا أمام آلة التمرد والدمار. لقد تجلت في الفاشر أرفع معاني التضحية والانضباط والاحترافية، فخاض الجنود معارك ضارية دفاعًا عن المدنيين، ودحروا عشرات المحاولات لاقتحام المدينة، وتصدّوا ببسالة تُدرّس في معاهد القتال العسكري.

وفي هذه المعارك البطولية، أثبتت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا صدق نواياها في الالتزام بحماية المدنيين، حيث قاتل مقاتلوها جنبًا إلى جنب مع الجيش والقوات النظامية. وكان لقادتها العسكريين أدوار مباشرة في التخطيط والدفاع والتعبئة، فكانوا جزءًا أصيلًا من ملحمة الصمود.

لم يكن صمود الفاشر محض صدفة، بل كان نتاج عقيدة وطنية ومهنية راسخة، جسّدها الجنود والضباط من مختلف الوحدات، وتوّجتها دماء الشهداء الذين بذلوا أرواحهم دون تردد، ليبقى عز و شرف العسكرية السودانية و مجد جندها الابطال عصيًّا على الانكسار.

عبر التاريخ العسكري، شهدت البشرية حصارات دامية لمدن كبرى: سراييفو في البوسنة، لينينغراد في روسيا، ومصراطة في ليبيا. لكن ما ميّز الفاشر أنها واجهت مليشيا مدججة بالسلاح والدعم الخارجي، دون غطاء جوي مثالي ، و دون خطوط إمداد متصلة و سالكة ، و دون دعم تعاطف و دولي يُذكر، على العكس من غريمها الذي يجد كل الدعم و السند من الفاعلين الدوليين و اذناب العمالة من الاطراف الاقليمية المتواطئة في دعم و اسناد المليشيا المتمردة ، ورغم ذلك، ظلت صامدة. عمليا، لقد تفوقت الفاشر في كتابة تاريخ فاق غيرها و نظيراتها من المدن المحاصرة تاريخيا، و بزتهم صمودا و بسالةبل اضحت ايقونة المدن و قلادة الشرف في سجل التاريخ للمدن المحاصرة.

إنه حصارٌ لم يكن هدفه العسكري فقط، بل التغيير الديمغرافي و تدمير النسيج الاجتماعي، وإخضاع إرادة شعب بأكمله. ومع ذلك، سطّرت الفاشر ملحمة بطولية تليق بسجل المدن الحرة، وقدّمت للعالم درسًا في الاستبسال والثبات، عنوانه( لن تسقط ابدا) .

إن ما يجري في الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية، بل اختبار حقيقي لمعاني الإنسانية، والعدالة، والضمير العالمي. وبينما تواصل المليشيا المتمردة ارتكاب جرائمها دون عقاب، يواصل الجيش السوداني والقوات النظامية الأخرى، والحركات المسلحة الوطنية، الدفاع عن شرف الوطن وكرامة شعب. و لطالما صمدت الفاشر شنب الاسد حتي الآن، فلا بد ان نعمل جميعا من اجل انتصار كبير يحفظ التاريخ الذي رسمته فاشر السلطان و يتوج بالنصر، و يظل هذا الامر مسؤولية قيادة الجيش التي من مسؤوليتها حشد كل الجهود و الطاقات لفك الحصار من بعد تخطيط و اعادة تقييم و اعادة تنظيم و انفتاح، لتكرر سفر النصر و العبور، تماما كما فعلت من قبل في الجزيرة و سنار و الخرطوم و اعادتها مراتع امن و استقرار و طردت منها المليشيا المتمردة و جعلتها تهيم بكل واد و طريق.

ان فاشر السلطان، اليوم لا تنتظر فقط مساعدات عاجلة، بل تنتظر اعترافًا بحقها في الحياة، وبدور المدافعين عنها في فك حصار جزء عزيز من السودان لا يزال يقاتل و يصمد في وجه عاصفة الموت والخذلان التى يتبناها ائمة التآمر و العمالة و الارتزاق .

السبت 12 يوليو 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!