
في دروب الحياة المزدحمة، تتقاطع طرقنا مع وجوه وأقدار تبحث عن يد حانية أو كلمة مساندة أو جهد مخلص. حينها، يُطرق بابك بإلحاح، ويُفتش عنك في كل زاوية، ويُشد على كتفك طلبًا للعون، حتى وإن كان قلبك مثقلًا بما يكفي. تمد يدك، تفتح صدرك، وتبذل مما تستطيع، لا لأنك تملك فائضًا من الوقت أو الراحة، بل لأن إنسانيتك لا تعرف أن تلتفت عن المستغيث وإن كان علي فرس.
لكن سرعان ما تنقضي حاجات الكثيرين، وتطوى صفحات المودة المؤقتة، ويغادرون كما جاءوا، وكأنك لم تكن جسرًا عبروا عليه من ضيقهم إلى سعتهم. ومع ذلك، تبقى قلة نادرة تحفظ الود في القلوب، وإن حالت الظروف دون رد المعروف، فيظل الامتنان ساكنًا في صدورهم، حيًا مهما بعدت المسافات.
ونحن اليوم، في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها مجتمعاتنا، أشد ما نكون حاجةً إلى هذه المعاني النبيلة، وإلى أن نمد أيدينا لبعضنا البعض بلا منّ ولا أذى، ودون انتظار رد جميل أو كلمة شكر. بل أن نمسح من قلوبنا أي لوم أو عتاب لمن سبق أن ساعدناهم ولم يردوا الجميل، فنترك الأمر كله لله، ونرجو منه القبول، فهو وحده يعلم خبايا النيات ويجازي على الصدق والإخلاص.
هنا، تتجلى الحكمة: أن يكون عطاؤك معقودًا بعهد مع الله، لا رهينًا بشكر الناس ولا أسيرًا لرد الجميل. فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصانا قائلًا: “من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته”، وأكّد بقوله: “من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”. إنها دعوة لأن نحيا بقلب كبير، يحمل هم التكافل والتراحم، وينشر التعاون بين الناس، لا تبادل المصالح.
حين تدرك أن العهد مع الله، يتحرر قلبك من شوائب العتاب ومرارة الخذلان، وتغدو يدك ممتدة بلا تردد، لأنك تعطي من أجل ربّ لا ينسى ولا يضيع أجر المحسنين. عندها فقط، يصبح عطاؤك عبادة، وصدرك متسعًا، وروحك مطمئنة بأن الجزاء محفوظ عند من لا يخلف الميعاد.
وفي النهاية، أرقى العطاء هو ذاك الذي يقطر من روحك بصدق، فينساب بلا قيد، ويزهر في حياة الآخرين دون أن تنتظر موسم الحصاد، لأن الله وحده كفيل بأن يرده إليك أضعافًا مضاعفة، في الدنيا والآخرة.