بحصافة / إمام محمد إمام

عم أحمد عبد الرحمن.. شيخ المتفائلين في رحاب الله

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com

تُوفي إلى رحمة الله تعالى، العم الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد القيادي البارز في الحركة الإسلامية السودانية ووزير الشؤون الداخلية الأسبق، يوم الاثنين 10 فبراير (شباط) 2025، وذلكم تصديقاً لقول الله تعالى: “ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰاتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ”. إذ غيبه الموت عن دنيانا الفانية، بعد قضاءٍ مؤجلٍ (المرض) لفتراتٍ طوالٍ، فأدركه القضاء المبرم (الموت) الذي سيُدركنا لاحقاً، حتى ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، مصدقاً لقوله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا”. وتذكيراً بقول الشاعر العربي خويلد بن محرث بن سعد بن هذيل، المعروف بأبي ذؤيب الهذلي:‏
وإذا المنية أنشبت أظفارهـا
ألفيـت كـل تميمـةٍ لا تنفـعُ
كنتُ حين أُنبئتُ بنبأ وفاة العم الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد في سحائب فضاءات لندن الماطرة في طريقي طيراناً إلى أكادير خضراء المغرب، أشجاراً ومحيطاً وجبالاً، فتأخرتُ حتى أعود أدراجي إلى لندن، مما دفع بعض عارفي علائقي بالعم أحمد عبد الرحمن محمد التساؤل عن تأخري في تعزيته كتابةً، ولكني طمأنتهم بأنني سأكتبُ عنه ولو بعد حين!. فالتعزية هي التصبير وذكر ما يُسلي أصاحب الميت، ويُخفف حزنهم، ويُهون مصيبتهم، وذلكم لأن التعزية تَفْعِلَة من العزاء، وهو الصبر والتصبير ويكون بالأمر بالصبر وبالحق عليه بذكر ما للصابرين من الأجر، ويكون بالجمع بينهما، بالتذكير بما يحمل على الصبر. وتُستخدم كلمة التعازي بصيغة الجمع أكثر من استخدامها بصيغة المفرد لسببٍ غير واضحٍ، لكن ذلك يشبه عادة استخدام كلمات في حالة الجمع مثل “تحياتنا”، “تمنياتنا” وهكذا. ومن المعلوم، أن كلمة العم تُستخدم في غير شقيق الأب، بقصد التوقير والاحترام، وعلو الشأن، وقديماً قال اللغويون “الألفاظ أوعية المعاني”!
فالتعزية لا نعلم دليلاً في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، نص على تحديد التعزية. أما إن كان المعزَّى غائباً أو المعزِّي ولم يلقْ أحدهما الآخر فلا بأس أن يعزيه متى لقيه، لأن في التعزية معاني أخرى غير تسكين قلب المصاب كالدعاء وهو مشروع في كل وقت، وممن نقل ذلك النووي في المهذب، والنفراوي في الفواكه الدواني، وابن مفلح في الفروع.
وذهب بعض الفقهاء إلى عدم تحديد مدة التعزية مطلقا.. نقل ذلك ابن مفلح في الفروع عن جماعة من الحنابلة، ونقله النووي وجها عند الشافعية لأبي المعالي الجويني. فكثير من المسلمين ومن بينهم بعض السودانيين يخلطون بين العزاء والمأتم (مجلس العزاء) الذي يُعقد بعد دفن الميت، فهو الذي يُحدد بميقات زماني أو يُصرف عنه تماماً بعد الدفن.
مما لا ريب فيه، أن فقد العم أحمد عبد الرحمن محمد، كان فقداً عظيماً، ومصاباً جللاً، لأهليه وأصدقائه ومعارفه وعارفي فضله وإحسانه داخل السودان وخارجه، لما يتميز به من حُسن خُلق، ومن معشر طيب، وسماحة وطيبة، وصداقة واسعة، وعلائق متميزة، ومعاملة حسنة، إذ كان عنده الدين حُسن المعاملة.
ولد العم أحمد عبد الرحمن محمد في عام 1934 في مدينة بربر، وهو دائم الفخر والافتخار بهذه المدينة التاريخية، في غير عصبية مناطقيه!
درس الراحل عبد الرحمن محمد في جامعة الخرطوم، حيثُ تخرج من كلية الآداب فيها، وبعد تخرجه عمل ضابطاً إدارياً. وحصل على درجة الماجستير من إحدى جامعات هولندا. وبعد عودته من هولندا، شغل منصب المدير التنفيذي لمدينة كسلا. ويحمل لهذه المدينة وأهليها ذكريات عاطرات. وعمل جاهداً على توطيد دعوة الحركة الإسلامية في تلكم المدينة.
وكان الراحل أحمد عبد الرحمن محمد خارج السودان، عند قيام انقلاب مايو في 25 مايو (أيار) 1969، بقيادة العقيد جعفر محمد نميري والذي أعقبه اعتقال معظم قيادات جبهة الميثاق الإسلامي. ومن خلال تلكم الاعتقالات التعسفية على قيادات الحركة الإسلامية وشبابها، استشعر العم أحمد عبد الرحمن محمد بأهمية التحرك لمعارضة النظام المايوي الشيوعي في أول عهد ذلكم الانقلاب. فقرر التوجه إلى إثيوبيا، بهدف تأسيس مع عدد من الشخصيات السياسية السودانية، حركة معارضة من خارج السودان، والعمل على دعوة شخصيات حزبية للعمل المعارض داخل السودان، بالإضافة إلى العمل المعارض للنظام المايوي في الخارج. وساهم من خلال علائقه بالسعودية، في ترسيخ أقدام المعارضة السودانية في السعودية، ولكن حدث تغير في الموقف السعودي بعد طرد الشيوعيين من النظام المايوي، مما اضطر المعارضة إلى إنشاء الجبهة الوطنية، ومن ثم نقل نشاطها إلى بريطانيا في عام 1973، ثم إلى ليبيا، حيثُ حظيت المعارضة السودانية بدعم من العقيد معمر القذافي. وأتاح لهم العمل العسكري من حيثُ التدريبات العسكرية والتسليح، إلى درجة دعمهم غير المحدود لتغيير نظام نميري بالقوة العسكرية في 2 يوليو (تموز) 1976، بقيادة العقيد محمد نور سعد، لكن محاولة الجبهة الوطنية باءت بالفشل الذريع، نتيجة لتآمر داخل قوى المعارضة نفسها!
ومن غرائب الأمور وعجائبها في السودان، كان وما زال تطلق الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة- وبعض السياسيين على
هذه الحركة بالمرتزقة! ولهذا المصطلح الذي سار به الناس، طُرفة وهي أن عدد من قيادات نظام نميري، كانوا مجتمعين في مكتب محمد محجوب سُليمان المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية، يتابعون أخبار المحاولة الانقلابية العسكرية، فجاءهم رجلٌ يسعى من دار الهاتف في وسط الخرطوم، ليعلمهم بأنه رأى شخصاً أبيضَ يحمل كلاشنكوفاً! فصاح محمد محجوب سُليمان وجدتها وجدتها، وكأني به يردد قاعدة أرخميدس عندما اكتشف قانون فيزيائي يُعتبر من أساسيات ميكانيكا الموانع، فصاح “أوريكا.. أوريكا” أي “وجدتها وجدتها”، فأطلق عبارة مرتزقة، باعتبار أن ذاكم الشخص من مرتزقة ليبيا، وهو في حقيقة الأمر، كان الأخ الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، قائد كتيبة مجاهدي دار الهاتف! ولم يسلم إعلام الإنقاذ من هذا التضليل الإعلامي، في وصف تلكم الحركة عند ورود ذكرها -حديثاً أو كتابةً- بالمرتزقة إلى يوم الناس هذا!
ومن المهم، أن نعلم من تداعيات تلك المحاولة العسكرية، أنها أقنعت الرئيس جعفر محمد نميري على التفاوض مع المعارضة، وبالفعل وقعت المصالحة الوطنية بين نظام نميري والمعارضة، حيثُ اجتمع الرئيس جعفر محمد نميري مع السيد الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي رئيس الجبهة الوطنية في يوليو (تموز) 1977 بمدينة بورتسودان. وكان للعم أحمد عبد الرحمن محمد دورٌ فاعلٌ في تحقيق تلكم المصالحة الوطنية، إذ أنه جاء إلى السودان من السعودية متخفياً للإطلاع على بعض الأمور وللتشاور مع قيادات الجبهة الوطنية داخل السودان. والعم أحمد عبد الرحمن محمد من الذين يجنحون إلى السلم ما تهيأت للسلم أسبابه. وأفسحت المصالحة المجال للأحزاب في الانخراط في العمل السياسي، والمشاركة السياسية في الوزارة والبرلمان وحزب الاتحاد الاشتراكي.
وقد لخص أمر المصالحة عمنا الشيخ مصطفى الأمين الذي كان في سجال قضائي مع المهندس بشير حسن بشير مدير مصنع النسيج في بورتسودان التابع للشيخ مصطفى الأمين، بدعوى قضائية من المهندس بشير حسن بشير للفصل التعسفي، وطلب بعض أبناء الشيخ مصطفى الأمين بحل المشكلة بعيداً عن المحاكم، وذلكم بدفع مبلغ مالي للتنازل عن القضية، ولكنه رفض رفضاً باتاً التنازل عنها لفترة من الزمن. ولكن بعد المصالحة بوقتٍ وجيزٍ، دعا أحد أبنائه إلى تقديم تعويض مالي للمهندس بشير حسن بشير، للتنازل عن القضية، فاستغرب الأبناء من هذا التحول المفاجئ لموقف والدهم، فعندما سألوه، قال لهم “جماعتوا وصلوا”! إشارة إلى وصول قيادات الحركة الإسلامية إلى الخرطوم بعد المصالحة الوطنية! لله درك في بصيرتك يا عمنا الشيخ مصطفى الأمين!
وعُرف العم أحمد عبد الرحمن محمد بالكياسة السياسية، وسعة الصدر، وحُسن المعاملة، والتفاؤل أحياناً إلى درجة الإفراط، فلذلك تجده متعدد العلائق والصداقات مع قيادات الأحزاب السودانية. وتوسم فيه الرئيس نميري إمكانية تحمل جسام المسؤوليات من بين الوافدين الجدد، فعينه وزيراً للشؤون الداخلية، وضم إليها وزارة الثقافة والإعلام والشؤون الاجتماعية، وذلك في الفترة من عامي 1980 إلى 1984. وأبلى فيها بلاءً حسناً.
وأسهم إسهاماً فاعلاً في الانتفاضة الشعبية في 6 أبريل (نيسان) 1985، وشارك بقدرٍ معلومٍ في تأسيس الجبهة الإسلامية القومية. وتم انتخابه نائباً في الجمعية التأسيسية (البرلمان) من عامي 1986 إلى 1989! كما تسنم وزارة الرعاية الاجتماعية في حكومة السيد الصادق المهدي الثانية في عام 1988. وفي الإنقاذ، تم اختياره رقيباً للمجلس الوطني (البرلمان) وأميناً عاماً لمجلس الصداقة الشعبية العالمية لردحٍ من الزمان ورئيس مجلس الصداقة الشعبية السودانية الصينية، وعمل جاهداً لتوطيد الصداقة الشعبية بين السودان وشعوب العالم. وشارك بفاعلية في تأسيس منظمة الدعوة الإسلامية وجامعة أفريقيا العالمية. وأسس أيضاً مع صديقه الأستاذ الراحل دفع الله الحاج يُوسُف جامعة السودان العالمية.
وقد كُرم نظير جهوده وإنجازاته، بمنحه وسام ابن السودان البار من قبل الرئيس الأسبق عمر حسن أحمد البشير.
وأحسبُ أن العم أحمد عبد الرحمن محمد، في خدمته للناس ومساعدتهم، وحُسن تعامله معهم، كان يتمثل في نفسه قول الله تعالى: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً”، وكذلك قول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:
الناس بالناس مادام الحياء بهم
والسعد لا شك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تُقضى على يديه للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
وأشكر فضائل صنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
عرفتُ الراحل أحمد عبد الرحمن محمد منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي في عهديّ الطالبي في جامعة الخرطوم والصحافي في صحيفة “الصحافة” ، وتوثقت تلكم العلائق إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية. وكنتُ أحرص على زيارته، كلما حضرت إلى السودان من لندن، وألتقيه أيضاً في لقاء الجُمعة بمنزل العم الراحل دفع الله الحاج يُوسُف في أم درمان. وكثيراً ما ألتقيه عند حضوره إلى لندن.
وكان الراحل أحمد عبد الرحمن محمد -يرحمه الله- يوليني عناية خاصة، ورعاية متميزة، من خلال تيسيير الحصول على أخبار وزارته المتعددة، فيكفيني بذلك مساءلة رؤسائي في صحيفة “الصحافة”، إذ كنتُ أمدهم بأخبار الوزارة المتعددة الخاصة. وكان يُحب مساعدة الآخرين، والقضاء على حوائجهم. فكان يفعل الخير لأهل السودان دون ذكره في مجالسه أو عند خاصته. فكان الراحل أحمد عبد الرحمن محمد من الذين يدركون أن من يفعل الخير لا يعدم جوازيه، تصديقاً لقول الله تعالى: “وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا”، وتأكيداً لقول أَبُي مُلَيْكَة جُرُولْ بْنْ أَوْسْ بْنْ مَالِكْ المعروف باسم الْحُطَيْئَةِ:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العُرف بين الله والناس
وكان ودوداً متواضعاً، وكريماً سخياً، واجتماعياً رفيقاً. المعاملة عنده ينبغي أن تكون بحسن الخلق، ولين الجانب، ورقة التعامل. ولا يُعادي أحداً، لأنه كان يعلم أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور، وكأنه في ذلك يستذكر قول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ”. وقول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبئ:
ومُراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يُلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا
أخلص إلى أن الراحل أحمد عبد الرحمن محمد كان يعكف في أُخريات أيامه على كتابة مذكراته التي سجل فيها تاريخاً مهماً للحركة الإسلامية، وتذكر فيها أحداثاً ووقائع صنعها أو شهد عليها. وكنت حريصاً على متابعتها بالسؤال عنها من ابنته الأخت عفاف التي كانت بارة به، تُدير شؤونه، وتُنظم أعماله، وأنا بذلك من الشاهدين.
وختاماً أسأل الله تعالى أن يتقبَّل فقيدنا العم أحمد عبد الرحمن محمد الذي عاش متواضعاً، ورفيقاً، ومحباً، ومحبوباً من أهليه وأصدقائه ومعارفه كافة، قبولاً طيباً حسناً، ويُنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، ويُدثره بدثار عميم المغفرات، ويُدخله نعيم الجنات، ويُلهم آله وذويه وأهليه جميعاً وأصدقاءه ومعارفه وعارفي فضله، الصبر الجميل.
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

اترك رد

error: Content is protected !!