أختلفت مع أصدقائي المثقفين في سيراليون حول ضرورة إنشاء جسر (لونغي – فريتاون) الذي سيربط بين المطار والعاصمة. فالعاصمة فريتاون هي الوحيدة في العالم التي لا ترتبط بمطارها براً، حيث يقع على الضفة المقابلة للخليج في رحلة تستغرق 40 دقيقة، ويستلزم الأمر ركوب “البنطون” أو قارب صغير للوصول سريعاً. رغم استعداد الصين لتشييد الجسر، إلا أنني أرى توجيه الاستثمار للنقل البحري، باستيراد عبّارات ضخمة تنطلق كل ساعة، مرتبطة بالمطار بعد تزويده بممرات متحركة من صالات الوصول والمغادرة إلى المرفأ. ما أجمل أن تبدأ زيارتك لبلد برحلة بحرية، مما سيضفي تميزاً سياحياً للبلد بدلاً من اعتباره نقصاً فيها.
يعتبر رئيس سيراليون “جوليوس مادا بيو” شخصية فريدة ومتواضعة، يملك شغفاً للمعرفة والنقاش. هو عميد متقاعد، سياسي، أكاديمي، ومزارع، وتتعامل واشنطن معه حالياً بأسلوب الضغوط و”التهويش” بالعقوبات، والمفاجأة أنه مستعد لذلك، رغم “شهر العسل” الذي شهدته العلاقات في فترة رئاسته الأولى 2018-2023 كان يدرك تماماً تغيّر الموقف الأمريكي وقد أعد نفسه لهذا الواقع، وتعجبه جدا مقولة “المتغطي بالأمريكان عريان”، التي قالها الراحل حسني مبارك.
مارس الرئيس جوليوس بيو مع الدول الغربية منذ دورته الأولى فن “الممانعة المحسوبة” وتقنيات “الارتباط البناء” في مجالات محددة، فهو الآن يتمسك بعلاقته مع الروس رغم انتقاده لروسيا في حرب أوكرانيا، مما أظهر ميله للتوازن بدلاً من الانحياز لأمريكا. ولذا، استغلت واشنطن مؤخرا ملف انتخابات 2023 وما أثير حولها من المعارضة من مخالفات كذريعة لفرض العقوبات والتي أعلنت في أغسطس بغير تفاصيل لمزيد من الإرباك ثم قنص الشخصيات “بالتقسيط” من أجل البلبلة المدروسة والمخطط لها.
بدأ جوليوس فترة رئاسته الأولى في 2018 بقرار مفاجئ، حيث أقال معظم رؤساء البعثات والدبلوماسيين، وأبقى على آخرين، ليؤمن خطوط الدفاع الخارجية قبل التوجه إلى الداخل بإصلاحات وجراحات عميقة ومؤلمة. اعتمد جوليوس على “وصفة محكمة” تقول إن مشكلات الداخل في أفريقيا أصلا موجودة، لكنها تتفاقم بسبب التلاعب الخارجي ولذلك لا بد من تحصين العلاقات الخارجية قبل القرارات في الداخل، مما جعله يعمل على السيطرة على هذا التلاعب من خلال إحكام القبضة على السياسة الخارجية بشخصيات قوية وذات ولاء وطني عالي وعمل مؤسسي وليس “صفقات شخصية” محدودة التأثير بغرض تثبيته على الكرسي وبيع الآخرين كما فعل عدد من الرؤساء قبله.
بعد أداء القسم، كانت القوائم جاهزة وتم تنفيذ عملية الإبدال والإحلال في كل المحطات الخارجية دفعة واحدة، ثم شرع بعدها في حملات مكافحة الفساد الداخلي، والتوسع في خدمات التعليم والصحة وحقوق المرأة والطفل، ثم النفاذ عبر هذه الإصلاحات للمجتمع الدولي، هذا النفاذ ما كان سيحدث أبدا مع (الطابور الدبلوماسي) من بقايا الإتفاقيات والتعيينات الحزبية والقبلية، لأن أداة التسويق والتواصل الأولى لأي بلد –بكل بساطة- هي السفارات.
رحب الشارع السالوني (الاسم الشعبي لسيراليون) بحملة مكافحة الفساد، ولكن بعد فترة رغب الناس في قرارات أكثر جرأة، وانحسر التأييد مما أطلق نكتة “الرئيس حريص على نظافة البلد من الفساد، لذلك يشتري مكنسة جديدة كل يوم”، بمعنى أنه يصدر لوائح ويشكل لجان.
النكتة حاضرة دوما في الجلسات، ورغم مرارة الحرب الأهلية، تتمتع الثقافة السياسية في كل من سيراليون وجارتها ليبيريا بمستوى عالٍ من الذكاء والمنافسة، حيث تأسست نظمها السياسية على يد السود المحررين من أمريكا وكندا، مما أضفى مزيجاً من الحضارة الغربية واللغة الإنجليزية التي اختلطت مع الثقافات المحلية.
المنصفون وحدهم من فهموا منهج جوليوس في مكافحة الفساد، فهو يكافح الفساد فعليا ولكنه يجعل من هذه القرارات رصيد في المؤسسات الغربية والدولية، ولذلك هو يهتم بالتسويق الجيد والتوظيف المتميز لهذه القرارات في الغرب والمؤسسات الدولية وقد نجح في تحسين التقارير الدولية والغربية حول سيراليون، ودخل في اتفاقيات مساعدة حول الحوكمة والإدارة.
لو لم يقم جوليوس بتلك الجردة التأديبية في وزارة خارجيته والسفارات، ويؤمنها بالمخلصين لما استطاع تحقيق هذا الإنجاز، لأن الجاثمين على المحطات حينها كانوا غير مؤهلين للتسويق للقرارات بل كانوا أقرب لتشويهها وبيع المواقف، وسيكشف التاريخ يوما ما كيف توصل الرئيس جوليوس على هذه الوصفة وخطة النفاذ.
حجز جوليوس مساحات إيجابية في مكافحة الفساد في الخارج، ثم توجه نحو التعليم والمرأة والطفل والملفات الداخلية والتي ساعدته فيها نجومية السيدة الأولى فاطمة جابي، الممثلة السابقة وملكة جمال أفريقيا في العام 2002، وهي مسلمة متدينة في حين أن جوليوس كاثوليكي، و”فاطمة السمحة” أمها من الميندي في سيراليون وأبوها غامبي من الماندينكا وهي ذات القبيلة في غامبيا التي ينحدر منها “كونتا عمر كنتي” بطل فيلم وقصة الجذور The Roots. وزواج المسلمين من المسيحيين عادي جدا في عدد من الدول الأفريقية.
في الجندر والحريات الإجتماعية أيضا اشترى جوليوس مؤخرا “مكنسة كبيرة” ولكنها للخارج وليس للداخل فقد عزز قانون المساعدة في الإجهاض، وعمليا لا توجد طلبات إجهاض ولا مشكلة إجهاض بالحجم الذي يوجد في المجمتعات الغربية، ولكن لأن جوليوس صاحب الماجستير في الشئون الدولية من الجامعة الأمريكية في واشنطون يعرف هوس الليبراليين في أمريكا والغرب بهذه القضية وقام بتوظيف اهتمامهم جيدا للحصول على دعم في الصحة.
نظريا الآن القانون موجود والمؤسسات الصحية مدعومة خارجيا بسبب هذا القانون وغيره ولكن الدعم يذهب إلى صحة الحوامل والولادة والإنجاب، وقليل من الإجهاض حسب الرأي الطبي.
يطول الحديث عن أحبابي السالونيين ولكن القصة التي لا أمل منها هي ما وثقها فيلم “لا أمستاد La Amistad” وتعني بالإسبانية الصداقة، وهو اسم السفينة التي شهدت أول ثورة ناجحة للمختطفين أو المستعبدين الأفارقة ضد ملاك السفينة، وبطل الثورة هو سينجي بيه، ولاحقا تم تسميته جوزيف، وهو شاب ذكي وقوي من “قومية ميندي” وهي فرع من إثنية الماندي الكبيرة في غرب أفريقيا والتي تشمل بامبرا في مالي وماندنيكا في غينيا وغامبيا والسنغال وبوركينا، وهم أهل أمبراطورية مالي والملك العظيم منسا موسى، والذي يعتبر أغنى رجل في تاريخ البشرية بثروة من الذهب تعادل 400 مليار دولار بحسابات العصر.
سينجي بيه قاد التمرد داخل السفينة وقتل الكابتن والطباخ، ولم يكن الأمر مجرد شجاعة وقوة، بل هو أدرك في فترة الخطف أنه سيتم تكبيله بالحديد داخل السفينة فاحتفظ بمسمار لهذا اليوم المظلم، و وضع الخطة وتواصل مع رفاقه وهم في الأصفاد على ألواح الخشب وعندما حرر نفسه حررهم ثم توجه إلى حيازة السكاكين قبل الصراع، فكان الهدف الأول هو المطبخ وليس غرفة الكابتن، وقرر عدم قتل البحارة لأنه سيحتاجهم للعودة. هل تصدقون بعد كل هذه العبقرية الفذة نجح البحارة في قيادة السفينة بالخدعة لجزيرة لونغ آيلاند في نيويورك بدلا من العودة إلى سواحل سيراليون، ودخلوا أمريكا ليتم استعبادهم وذلك باستغلال أنهم لا يعرفون الإنجليزية ولن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم ولكن سخر الله لهم ثيودور جودسون والذي أجاد دوره في الفيلم “الأسطورة مورغان فريمان”، وجودسون رجل أعمال ومحامي أمريكي أسود يتصدى لهذه القضايا في المحاكم، وقد أجاد “ديجموند سوهونو” بثباته وذراعه القوي وقبضته الفولاذية دور سنيجي بيه، ودجموند الأمريكي أصله من بنين على ذات الساحل مع سيراليون.
من يصدق أن هذه البلد التي أتحدث عن انتخاباتها وسياستها الخارجية وخطط الصحة والتعليم شهدت أسوأ حرب أهلية على مدى إحدى عشر سنة، سقطت فيها العاصمة فريتاون بالكامل في يد “مليشيا آر يو إف” التي كنت تقطع الأيادي من الكتف بالسواطير لمن يرفض مساعدتهم في التجنيد القسري، ومن يقفون مع الجيش النظامي، واستولت المليشيا بهذا الإرهاب على ثلاثة أرباع البلد ومناجم الماس واحتكرت بيعه خمس سنوات، ولكنها فشلت في النهاية، وطوت سالون الحبيبة الصفحة المظلمة وعادت للإنتخابات والوطنيين الخلص.
في شواطيء سيراليون يمكنك أن ترتاح من التعب وتمد أقدامك نحو المحيط الأطلسي في الرمال البيضاء الناعمة، ومع هبوب النسيم من الغابات ذات الأساطير تجد نفسك قد أسندت ظهرك إلى بلدان ذاخرة بالثروات والشجاعة والذكاء ولكنها كانت مظلومة من قبل أبناءها الذين لولاهم لما دخل من ثغراتها من يسوم أهلها سوء العذاب.