حضور الإبداع السوداني ما بين مركز كيندي للفنون ومكتبة الكونغرس الأمريكي في واشنطون، إشارات الحوار الموجب المبكِّر المفضي للنتائج
عروض المسرح الأمريكي في مهرجان البقعة للمسرح،إشارات الإيجاب في العلاقات المبشِّرة بالتعاون الممكن، ونتنعم ببعضها الآن.
عرض فرجة (بوتقة سنار) على مسرح (لماما -نيويورك)،التطبيق العملي مع الجودة لمفاهيم المسرح والسياسة في بناء الجسور وتعزيز العلاقات ما بعد السياسة.
علي مهدي
عدت يا سادتي ذاك الصباح امشي الهوينة، لا مطر ولا غيمات تحاكي (كرمكول) عند الظهيرة، رغم ما فيها من جمال على دلال بعض أهلها من حُسن فيهم بادي،وعرفتها (واشنطن) المدينة وأهلها زمن طويل، مشيت في أنحائها مراراً مع التكرار الحميد . جئتها أول مرة قبل عقود،تزيد على الأربعة أو أكثر، يومها كان في العمر من الحماسة ما يجعل مشواري هذا خطوة أو أكثر في مشاوير الصباح، بينها مكتبة (الكونغرس الأمريكي) ومركز (كنيدي) للفنون،على نهر (البوتمك) الأخضر، في مواجهة مبني (وترقيت) الأشهر،
ذاك كان بعض حلمي،أن أدخل في مهابة، أطوف بالمكان،أنظر المعارض الفنية المتعددة،بعضها قصير الأمد،والآخر يمتد لشهور،أحضر اللقاءات مع الفنانين، يحضرون من عواصم شتى،من مختلف الثقافات والمعارف، أدخل واحدة من العروض الفنية المتجددة،امتِّع الروح والقلب،وقبلها عيني بمشاهدة أحدث عروض مسرح (البالية)، خاصة إذا كانت (البرلينا)من تواريخ الرقص الأمريكي اللاتيني، القديم الجديد،جاءت ذاك المساء من مدينة في الغرب البعيد،بعد (لوس أنجلوس) بمسافة، كانت في العقد السادس،نعم لكنها في جمالها واقفة، وقدَّمت واحدة من أجمل عروضها،ومن أجمل عروض البالي العالمي، ترقص بحُسن وإتقان، شابة،فاتنة، وأجمل ما تكون حينما ترتقي في الحركة، لتسبح في فضاء الخشبة، وفي واحد من أحدث مسارح العالم . ذهبت إليها،قدموني لها، عرفت (أفريقيا)، وقالت لي بعدها في المساء،وتجاوزنا في السهرة المبكرة تلك مسافة المكان،ولا حاجز ممكن كان يباعد بيننا في الزمن .
قالت وعطرها من بين عينيها فواح،ما فيه إلا صدق الكلمة الموحية،
(إنها الأسعد أن تتعرَّف بعد ذاك العمر البعيد،بواحد منها، أفريقيا حلمها القديم) والحكاية في الزمن بعيدة،ذهب عمها إلى أفريقيا مع (تشي) الجميل، صادقة في وصفها لـ(جيفارا)،ومشينا معاً في دروب الحكاية،هي دهليز آخر عنها علاقات حركات التحرر بأفريقيا،يوم عشقت (باتريس لومومبا) وبعده ( جومو كنياتا) .
وتلك قصة أخرى، وفي زيارتي تلك، تحقق حلمي الشخصي،وقفت في واحدة من أجمل القاعات الأحدث في المركز التذكاري للرئيس (جون كندي)،أحكي في محاضرة أقرب إلى الحوار المفتوح،مع حضور من فنانين وعلماء وأهل سياسة وباحثين ونقاد،عرفوا وشاهدوا تجاربي المسرحية (المسرح في مناطق النزاع)، أهمها فرجة (بوتقة سنار)،يوم عرضها الأول على مسرح (لماما) الأشهر في (نيويورك)، والمؤسسة لها الصديقة المسرحية الأمريكية (الن استيورت)، دعتني وفريق مسرح البقعة التمثيلي، لتقديم العرض،وجلست هي يومها بين الجمهور، وهي الأكثر حماسة لمبادرتي لاستخدام المسرح في تخفيف الصراع،وحدة النزاعات الأهلية،خاصة بعد أن قدَّمت التجربة في مدينة (تيمبكو) في(المكسيك) والصيف فيها عام 2004، غير، في كل تفاصيل الاختلاف. كانت المرة الأولى وأنا اطلع المجتمع المسرحي العالمي على جهودنا من أجل بناء السلام في وطني، ومدينة (تيمبكو) الأبعد، سافرت لها بعد العاصمة (مكسيكيو)،ساعتين طيران، سبقتها ثلاث عشرة ساعة، متصلة من (لندن)،ولا تحسب ما قبلها، لكنها وهي الأجمل أضاعت تعبي بحُسنها، فيها التقيت بأحفاد الجنود السودانيين،يوم حاربوا من أجل السلام والاستقرار في أمريكا اللاتينية، وتلك حكاية أخرى لي فيها تفاصيل، وما كان لي أن أحيط بها من غير مداخلات بعض جمهور محاضرتي فيها،والمؤتمر العام للهيئة الدولية للمسرح ينتقل لها أمريكا اللاتينية، (الأرجنتين)، لأول مرة . وقف الرجل الأسمر إلا قليلاً،وصرخ (هذا الإيقاع سمعته من جد جدي قبل سنوات،وأحفظه، أرجوك إعادته لو تكرَّمت).
كنت أعرض بعض صور من عروض لنا في دارفور الكبرى، وأغنيات قديمة رقصنا على إيقاعاتها في معسكر (السريف)خارج مدينة (نيالا). ثم أخذتنا الحكايات للبيت والأسرة الجميلة والتصاوير التي تجمع بعض جنود الفرقة السودانية،وتلك حكاية أخرى أعود إليها،لأنني بعدها وفي زيارة أخرى لها (المكسيك) التقينا، وزرت معه أسر أصولها من دارفور الكبرى وجبال النوبة .
ويومها في مركز (كيندي) للفنون اتسعت دوائر الاهتمام المشترك،ومشينا في برامج امتدت لسنوات،ووعدي أن أعود إليه لتقديم بعض التجارب الجديدة،وأعرض بعض منها التصاوير .خاصة وتجربتي (المسرح في مناطق الصراع) عرفتها مدن الغرب الأمريكي من عند (نيويورك) المزدحمة إلى (سانت لويس) الأجمل و( لوس أنجلوس) بدلالها، وما بينهما،أحكي عنها الفكرة في الاستخدامات الممكنة لفنون الأداء التمثيلي .
ثم هذا الصباح أعود وحدي أمشي فيها (واشنطون)، لكنها الخطوة أقل عنها تلك الأولى في الربع الأخير من سبعينات القرن الماضي، أمشي وفيني حماس الشباب،وموعدي الأهم مع إدارة المكتبة وقد عرفتهم أقرب فأقرب، يوم وقفت في القاعة الكبرى أقدم محاضرتي الأشهر
(أثر التصوُّف على المسرح المعاصر)
ولأنها كانت الأولى في تواريخ فنون الأداء العربية والأفريقية،ولا في خاطري أنني سأعود إليها المكتبة الأحب عندي والأهم في قدراتها في الحفظ والتدوين والتوثيق . وبعد حواراتنا الموجبة وتبادل الزيارات تكاملت الفكرة . الاحتفاء بسيدي الطيب صالح عليه الرحمة، وكان انتقال الرحمة الكبرى التامة غير بعيد،لا في مسافات الزمن أو الفكرة . وقد أحتفينا بها الذكرى بأسرع ما هو ممكن، خاصة وقد سبق ذلك بأشهر، وكنا ونحن نستعد لمشاركات خارجية،فتحوَّل مسرح البقعة إلى ورشة فنية وعلمية كبرى،كلنا نعمل من أجل أن يشهد افتتاح مهرجان البقعة الدولي حدث إبداعي كبير فيه من الإشارات المفرحة أكثر من الحزن، وجلست مع الأحباب كعادتي أرسم على الأوراق تصاوير نجمعها مع الحوارات الممكنة نبني بها مشاهد تكون فرجة فيها من التشخيص والغناء والمديح وتراتيل أقدم،توحي بالمحبة في صدقها .فكانت الفرجة التامة بالمحبة (من طيب الطيب صالح)، وشهد المسرح القومي أم درمان وفي افتتاح مهرجان البقعة الدولي للمسرح أول عرض لها،كان مفتاح بعدها لغيره،وكان وفقاً لترتيبات ذاك الحلم بانتقال الاحتفاء والاحتفال بسيرته العطرة إلى مبنى (الكونغرس الأمريكي) فيها (واشنطون) التي عرفتها،فمشيت يوماً أشهد موعدي الأول معهم أهل المكتبة الأحب،وصلتها من فندقي الذي عرفته لسنوات، غير بعيد من مربع حركتي،وسفارة السودان في موقعها الأشهر بين السفارات،ثم أنني أمشي من عنده إلى جامعة (جورج تاون) أعبر الجسر، أمتَّع النظر والروح بأصوات المياه تجري لمستقر لها،لم أتابع أين،لكني الأسعد كنت بمشهد الخضرة والأشجار القصيرة . الطريق فيه بعد الجسر عماير كبيرة. مباني واشنطون القديمة التي تعرفها،العمارة المتميزة تحافظ على مستوى النظر عندك، فتمشي أماناً في بصرك . والسيرة لسيدي الطيب صالح كانت تعطر القاعات،الممرات،الأبواب تفتح باسمه الجميل، والتحيات والسلام على الناس الأبرار،ما أن عرفوا الفكرة والتفاصيل،فلم يمضي الصباح حتى كانت الموافقة مع الفرح .واتفقنا ووقعنا بعدها، وتبادلنا الرسائل والزيارات،وأبرمنا الاتفاق. كان الأول من نوعه،اتفاق سوداني (أمريكي) بيننا في مركز مهدي للفنون،خاصة وتربطنا هنا في الخرطوم علاقات عمل فنية وثقافية مع السفارة (الأمريكية) ونظمنا معاً واحدة من أكبر الأحدث الثقافية،سبقتها عروض للمسرح الأمريكي في مهرجان البقعة الدولي، ثم ورش متخصصة في أستوديوهات مركز مهدي للفنون،بل هي الأولى في تاريخ العلاقات السودانية (الأمريكية) يوم احتفل المركز في موقعة القديم على شارع (السلطان علي دينار) فكان يوم ثقافي كبير،وسط جمهور (أمريكي) سوداني .
ولم يكن في خاطري أننا نرد للمركز بتنظيم احتفالية الطيب صالح في مكتبة (الكونغرس الأمريكي) وفي (واشنطون) أكثر من اننا نجدد فرص التعاون، ولكن، لكن هذه كبيرة،وتكبر كلما عرفنا ماذا حدث بعدها.
احتفالية الطيب صالح
مركز مهدي للفنون ومكتبة (الكونغرس)
وضعنا الشعارات على التصاميم الفاخرة للترويج للمبادرة الخلَّاقة الأولى للاحتفال بكاتب عربي أفريقي،ثم ذهبت بعدها بين المدن أدعوا العلماء، الكتاب والأصدقاء عارفي فضله والمدركين لإسهاماته، فكتبت الأوراق العلمية والتذكارية .
ثم حدث ما حدث
ولكن هذه المرة في موقع الممكن
سنعود نمضي نحوها واشنطون من جديد لنعيد لقاعات مكتبة الكونغرس الأمريكي ذات العطر الجميل.
برنامجنا في ذاك الاحتفال كان يحتوي على حلقات بحث ثلاثة،في كل واحدة كانت هناك ثلاثة أوراق، أعدها علماء وأساتذة أجلاء،عرفوا سيدي الطيب صالح عليه الرحمة عن قرب،وكتبوا عن إنتاجاته الأدبية، ترجموا له للغات الحيَّة، ثم جلسوا في قاعات العلم،درسوا الطلاب بلغات الدنيا رواياته الأشهر (موسم الهجرة للشمال) و(عرس الزين)، وغيرها .
وكنا ستعرض الفرجة الأجمل (من طيب الطيب صالح).
ثم جلس العزيز الراحل عبدالكريم الكابلي لأيام مع سلاطين الموسيقى السودانية في أنحاء أمريكا، اجتمعوا ليقدِّموا في المسرح الكبير في المكتبة،عروض موسيقية وغنائية تسعد الحاضرين كانت،ثم، ولكن مرة أخرى.
الأسابيع الماضية نظرت في مراسلاتي كلها كانت تذهب نحو مواصلة مسيرة تحقيق البرنامج الكبير تغيَّرت قيادات العمل في مكتبة الكونغرس الأمريكي لكنها الوثائق كانت محفوظة والحماسة أكبر الآن أعود في اتجاه تعزيز الحوارات من جديد وهذا أوان البحث عنها الفرص الممكنة واثقاً أنها الأفضل الآن والممكن غير المستحيل بيننا .
مركز مهدي للفنون وقد أكمل العام الماضي إجراءات تسجيله في نيويورك وعقد أول اجتماع لمجلس إدارته برئاسة الحبيب حسن عيسى التجاني الأمير، منه ستعود تنطلق عطور وطيب الطيب صالح إن شاء الودود .
ورمضان كريم ذهبت منه أيام بخيره
وكلنا كما الأطفال
في انتظار العيد