نهلة صالح اسماعيل
أغنية من صميم الإحساس ، إستطاعت أن تجسد صدق المشاعر السودانية العميقة التي تستطيع تغزو مسافات ذات ابعاد متعددة مختلفة لتنحو بنا لأماكن بعيدة لا نعلمها إلا بالتجربة التي تؤكد صدق الحدس والإحساس.
هذه الأغنية المليئة باشجان الفراق وألم البعاد، إستطاعت أن تتلمس انواع الفراق باختلاف انواعه. ورغما من إعتراض الملائكة على خلافة هذا الإنسان الذي لا يعرف غير القتل والغدر وسفك الدماء والظلم في احيان، وهو الأمر الذي تجسده اشياء كثر منها الحروب التي سمعنا وقرأنا عنها أو تلك التي عشناها وعاصرناها وتزوقنا مرها وظلمها ومرارتها وما صنع الإنسان باخيه الانسان. ورغما عن ذلك الإعتراض الملائكي جعل الله الخلافة للإنسان لعلمه المسبق به وان هذا الانسان الشرير الظالم القاتل يمكن ان يجسد جمال الملائكة في الأرض باعماله وإحساسه وتفكيره وعقله المميز.
فكل ودوره فمنهم الانبياء و العلماء والفقهاء والمخترعين والكتاب والادباء والمغنين والملحنين والشعراء.
وهنا نتحدث عن الشاعرة فاطمة خميس الفنانة الملهمة كاتبة الاغنية وملحنها، فهذه الأغنية الخالدة التي تخفي في طياتها اسرار تكشفها اللحظة والتجربة، هذه الاغنية دائما ما كانت تستهويني وتجذبني للإستماع والتحليق عاليا بكلماتها ولحنها الشجي فكنت دائما استشعر فيها والدي ذلك الحب والحنان الابدي، فقد افتتنت بها لانها تجعلني اسافر في ذكرياته ومشاعري تقف في حده وحياته وكنت استعجب للتضاد الذي استطاعت ان تفعله الاغنية في نفسي لقناعتي بانها كتبت في عشق المحبين ولوعة الفراق . ورغما عن ذلك لم أرى فيها غير ابي ذلك الحب الذي لم ولن يفارق الحياة، واتخيله رغم رحيله جالسا بمنزله العامر بحي السور كملك متوج اهديه قلبي تاجا ليشرفني ويسعدني بوضعه على راسه كتاج او عمامة .
وكانت مفاجئتي عندما عرفت ان الكاتبة القديرة المخضرمة كاتبة الاغنية فاطمة خميس كتبت الأغنية رثاء لوالدها ورحيله وكانت مفاجئتي عندما عرفت ان الاغنية مرثية في والدها وليس لفراق المحبوب الذي عادة ما كان يمثله قيس أو عنترة بن شداد في اغلب الاحوال .
ورغما عن العمر والسنين والمواضيع وإختلاف المجتمع الذي يفصل بيني وبين الشاعرة التي لم التقيها في حياتي ولكنا إلتقينا في ذاك الاحساس الأبوي الكبير . وهنا تكمن أسرار الفنون وجمالياتها وابداعها واغوارها العميقة وهو الامر الذي لم تدركه الملائكة. هذه الاغنية مليئة الاسرار لانها تستطيع ان تتشكل وترتقي ففي اعماقها الكثير الذي لا نعلمه إلا حين التجربة ، وعندما سمعتها في هذه المرة الأخيرة لم استشعر والدي بل ناداني وابكاني احساس آخر وهو الأب الكبير الوطن، أب الجميع الذي صنعنا من ترابه ونيله فكان طين سوداني صنع منا الجنس واللون والعرق . وعند فراقه بكى الجميع وتشتت الدمع الذي غلب اللقاط.
وعند بداية الاغنية وعندما غرد المغني بذاك الصوت الذي كسر كل افتراضات الملائكة واعتراضها على خلافة الانسان، بدأ بكلمات لن تكن مفهومة المعنى ولكنها مفهومة الإحساس ، فعندما يقول اريرا اريرا ريرا ريرا كانما يشير لمعبر ارقين لترادف الراءات ذلك المعبر الذي تشتت حقا فيه الدموع وغلب اللقاط وإختلط الدمع مع الدماء انهارا في وداع الاب الكبير الوطن الغالي .
اريرا اريرا في وداع سيد الريد والروح ذلك الاب الكبير الذي يحتوينا بكل جروحنا والامنا . وكعادة الإنسان السوداني في التوسل والتبرك بالاولياء والصالحين فها نحن نتوسل إليك ايها الوطن بكل أولياءك الصالحين الذين احتضنتهم بطنك ان ترضى عنا ونعود اليك و إلى ارضك ، يا بر يا ابو البتول وجليس الساكن السور والشيخ حامد اب عصا وجميع الأولياء والصالحين وبجاههم عند الله خالقنا وخالقهم أن تصفح وترضى عنا وتعيدنا إليك ايها الاب الكبير الوطن بس نرجع لسيد الريد والروح يا البعادك حار. فلا تقتلنا بالشوق وويلات الهجر والبعاد . وفي الختام تختتم الأغنية كلماتها باريرا اريرا مرة اخرى هل هي العودة العكسية لمعبر ارقين ودموع الفرح .نتمني بان يكون ذلك.
دمتم عافية وصحة نفسية