الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

خفض الفائدة الفيدرالي في ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥: فرصة محفوفة بالمخاطر للاقتصاديات النامية


————————

في التاسع والعشرين من أكتوبر، يجتمع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لاتخاذ قرار بخفض أسعار الفائدة ربع نقطة مئوية، ليصل النطاق المستهدف إلى ما بين ٣٫٧٥ و٤٪؜؛ في خطوة تمثل الخفض الثاني خلال عام ٢٠٢٥ بعد قرار سبتمبر الماضي. القرار يأتي وسط تباطؤ واضح في سوق العمل الأمريكية، حيث لم يضف الاقتصاد سوى ٢٢ ألف وظيفة في أغسطس، مع ارتفاع معدل البطالة إلى ٤٫٣٪؜، بينما تعيق الأزمة السياسية والإغلاق الحكومي الوصول إلى بيانات دقيقة، مما يجعل القرار محاطًا بقدر كبير من الضباب.

ومع ذلك، فإن الأسواق شبه متيقنة من اتجاه الفيدرالي نحو الخفض؛ فقد أظهر استطلاع لوكالة رويترز أن ١١٥ من أصل ١١٧ اقتصاديًا يتوقعون هذا القرار، بل ويرجح معظمهم استمرار دورة الخفض حتى نهاية العام. لكن ما يشغل بال العالم ليس تأثير القرار على وول ستريت، بل على الاقتصادات النامية التي تتحرك في فلك الدولار. فهل يشكل هذا الخفض متنفسًا للنمو، أم مصدرًا جديدًا للتقلبات؟

الوجه المشرق: استعادة الزخم وتحفيز الاستثمار

خفض الفائدة الأمريكية يضعف جاذبية الدولار، ويعيد شيئًا من الحيوية إلى الأسواق الناشئة التي طالما عانت من نزيف رؤوس الأموال. حين تتراجع العوائد الأمريكية، يبحث المستثمرون عن بدائل ذات مردود أعلى؛ وهو ما يدفع التدفقات نحو الاقتصادات النامية. في دورة خفض مماثلة عام ٢٠٢٣، ارتفعت الاستثمارات الأجنبية في الأسواق الناشئة بنسبة ١٥٪؜، وقفز مؤشر الأسواق الناشئة العالمى MSCI بنحو ١٠٪؜ خلال أشهر قليلة.

هذا الأثر الإيجابي لا يقتصر على التدفقات المالية؛ فالكثير من الدول النامية تتحمل ديونًا ثقيلة مقومة بالدولار، وخفض الفائدة يقلل تكلفة خدمة تلك الديون، مما يتيح مساحة أوسع للإنفاق على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية. كما يمنح القرار البنوك المركزية في تلك الدول فرصة لتخفيف السياسة النقدية محليًا؛ وهو ما يعيد النشاط إلى قطاعات الاستثمار والاستهلاك بعد سنوات من التشديد.

وتشير دراسات بنك التنمية الآسيوي إلى أن دورات الخفض عادة ما تضيف ما بين ١ و١٫٥٪؜ إلى معدل النمو في الاقتصادات النامية، متى ما صاحبتها سياسات مالية منضبطة. فالخفض، حين يُدار بعقلانية، يتحول إلى دفعة قوية للنمو المتوازن والاستثمار المنتج.

الوجه الآخر: اضطراب الأسواق ومخاطر التضخم

غير أن الصورة لا تخلو من ظلالٍ داكنة؛ فخفض الفائدة، وإن بدا محفزًا للنشاط، قد يطلق موجة من التقلبات يصعب السيطرة عليها. فالمستثمرون العالميون يتحركون بسرعة الضوء؛ وأي تغير في توقعات الدولار أو أسعار السلع قد يدفعهم إلى سحب أموالهم من الأسواق الناشئة فجأة. في عام ٢٠١٩، أدى خفض مشابه إلى هروب أكثر من ٢٠ مليار دولار من هذه الأسواق، وتراجع بعض العملات المحلية بنسبة ١٠٪؜ في أسابيع معدودة.

إضافة إلى ذلك، فإن تراجع الدولار لا يعني بالضرورة استقرار الأسعار؛ بل قد يزيد من تكلفة الواردات في دول تعتمد على الاستيراد لتغطية احتياجاتها الأساسية، مما يفاقم التضخم المستورد. في حالات سابقة، اضطرت بنوك مركزية عديدة إلى رفع الفائدة مجددًا بعد أشهر قليلة من الخفض، لتطويق موجات تضخم متسارعة؛ وهو ما يحول المكسب القصير إلى عبء طويل الأمد.

ثم هناك خطر آخر أكثر خفاءً: التدفقات السريعة للأموال الرخيصة قد تؤدي إلى تضخم في أسعار الأصول والأسهم والعقارات؛ دون أن يقابلها تحسن في الإنتاج الحقيقي. تشير دراسات معهد NBER الأمريكي إلى أن فترات الخفض المتتالية ترتبط بارتفاع القروض المقومة بالدولار في الاقتصادات النامية بنسبة ٨٠٪؜، لكنها تزيد كذلك من الديون المتعثرة ومخاطر الانكشاف المالي.

بين الأمل والحذر

في المحصلة، يبدو خفض الفائدة الفيدرالية حدثًا يحمل وجهين متناقضين: يمكن أن ينعش الاقتصادات النامية إذا استُثمر بذكاء؛ لكنه قد يربكها إن تعاملت معه بخفة. فالدول التي تملك احتياطيات قوية وتتبنى سياسات نقدية مرنة ستكون أكثر قدرة على تحويل الرياح العالمية إلى قوة دفع؛ أما تلك التي تراهن على الخارج دون إصلاح داخلي، فسرعان ما ستجد نفسها عالقة في دوامة جديدة من التقلبات.

القرار إذن ليس مجرد رقم في بيان اقتصادي؛ بل اختبار لمدى نضج الاقتصادات النامية وقدرتها على إدارة الفرص والمخاطر في آنٍ واحد. فمن يحسن التقدير سيحصد الثمار، ومن يركن إلى الحظ سيجني العواصف.

اترك رد

error: Content is protected !!