الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

خطة اليوم التالي للحكومة المدنية في السودان : قراءة في الممكن والمستحيل في الثلث الأخير من العام!؟

السفير د. معاوية التوم

مدخل

يشهد السودان واحدة من أكثر المراحل التاريخية تعقيدًا في مساره السياسي الحديث، إذ يدخل الثلث الأخير من العام الجاري وهو غارق في أتون حرب ممتدة فرضت عليه منذ أكثر من عامين، أضعفت الدولة وبنيانها التحية ومؤسساتها، ومزقت نسيجها الاجتماعي وبنائها السياسي، وفتحت المجال أمام التدخلات الخارجية. في هذا السياق، تبرز إشكالية “اليوم التالي” للحكومة المدنية التي انتظم تعيينها، برئاسة د كامل ادريس، وهي إشكالية ذات أبعاد مركبة؛ فهي من جهة ترتبط باستعادة منظومة الدولة من حافة الانهيار، ومن جهة ثانية تلامس جدلية الانتقال السياسي في الدول الخارجة من النزاعات، وما تزال بعض اطرافها تعاني مظاهر الحرب ، حيث تتقاطع الضغوط الداخلية وجهود الدولة للاستقرار مع أوضاع الجوار والاقليم الهشة بالتوازنات الدولية، .
إنّ خطة اليوم التالي للحكومة المدنية في السودان ليست ترفًا فكريًا ولا مجرد أجندة سياسية مؤجلة، بل هي امتحان مصيري في زمن تتسارع فيه الأحداث ويضيق فيه هامش الخيارات. فالثلث الأخير من العام يمثّل لحظة حاسمة بين أن يبقى السودان رهينة للفوضى والحرب والارتهان الخارجي، أو أن يستعيد عبر حكومته المدنية التي انطلقت زمام المبادرة، ويؤسس لمسار جديد يعيد الاعتبار للدولة والمواطن. وما بين الممكن والمستحيل، تظل الإرادة الوطنية والقدرة على التوافق هما الفيصل في تحويل الخطة من ورقٍ إلى واقع، ومن أملٍ هشّ إلى مشروع خلاصٍ وطني واضح السمات.


أولا: الزمن كمتغير ضاغط
من الناحية النظرية، يمثل الزمن عاملاً حاسمًا في عمليات الانتقال السياسي. إذ تشير تجارب مثل العراق بعد 2003 وليبيا بعد 2011 إلى أن فقدان السيطرة على “اللحظة التأسيسية” يفتح المجال أمام الفوضى أو إعادة إنتاج السلطوية والفشل . وفي الحالة السودانية، فإن دخول العام الجاري ثلثه الأخير يعني أن الحكومة المدنية ستجد نفسها أمام أجندة إسعافية قصيرة المدى، لا يمكنها أن تكتفي بالشعارات وإطلاق الاماني، بل عليها تقديم نتائج ملموسة وسريعة تعيد شيئًا من الثقة المفقودة، وتضع حدا لمعاناة المواطن من ويلات الخراب والتدمير وفقدان الممتلكات والهجرة الداخلية واللجوء.

ثانيا: أولويات اليوم التالي

1.إعادة الشرعية المؤسسية: تبدأ بخطاب جامع وواقعي يعلن فيه رئيس الوزراء برنامجًا محدد الملامح والآجال ، واستكمال انشاء بقية الهيئات والمجالس الأخرى مقرونًا بإجراءات عملية كتثبيت تشكيل مجلس الوزراء وانسياب عمل الوزارات والوحدات وانتظامها. وخطته الاسعافية والموازنة العامة ومواردها وإعادة الهيكلة وبناء مؤسسات الدولة خاصة العدلية والأمنية لاهميتها القصوى.

2.وقف الحرب وإدارة الأمن: هنا يبرز التحدي الأكبر، حيث يبرز الجانب الاهم في تثبيت حالة الامن ومخاوف المواطنين وازالة مخلفات الحرب ومظاهرها داخل المدن والأحياء ، وتحسين الوضع الصحي والبيئي، مع فتح مسار تدريجي لإصلاح القطاع الأمني والعسكري باكمال الدمج والتسريح . بالافادة من التجارب من حولنا مثل جنوب أفريقيا بعد الأبارتايد . كما تبرز أهمية إشراك الفاعلين المسلحين والمساندين للجيش ضمن عملية منظمة داخل امرته وسيطرته.
3.الإغاثة والمعيشة: بالنظر إلى حجم الكارثة الإنسانية، فإن الحكومة تحتاج لفتح الممرات الإنسانية فورًا، وضمان استقرار إمدادات الخبز والوقود والأدوية وحركة الأسواق . هذا البُعد لا يقل أهمية عن البُعد الأمني لأنه يمس شرعية الحكومة في نظر المواطن العادي، وتفاعلها مع همومه الحياتية .
4.إدارة التوازنات الخارجية: السودان ساحة تنافس مفتوحة بين قوى إقليمية ودولية، ما يجعل قدرة الحكومة على التوازن بين “الرباعية” (واشنطن، لندن، الرياض، أبوظبي) وبين الاتحاد الأفريقي والايقاد والأمم المتحدة معيارًا أساسيًا لنجاحها.
ثالثا: معضلات بنيوية
رغم وضوح الأولويات، إلا أن هناك معضلات بنيوية:

•تفكك الأجهزة الأمنية يجعل من أي قرار سياسي عرضة للاختراق أو التمرد، من واقع تعدد أشكال الوجود الموازي للمظاهر العسكرية خارج المنظومة الرسمية.
•الأزمة الاقتصادية البنيوية الناتجة عن الحرب، العقوبات، وانهيار الإنتاج النفطي والذهبي، وإعاقة المواسم الزراعية والبنية التصنيعية واستنزاف امكانات المواطنيين على محدوديتها .
•ضعف الثقة المجتمعية في أي انتقال جديد، نتيجة إخفاق التجارب السابقة (2019–2021) وحالة الفوضى التي خلفها واسست لهذه الحرب المدمرة عبر ما عرف بالاتفاق الاطاري.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل تستطيع الحكومة المدنية تجاوز هذه المعضلات عبر “إجراءات اليوم التالي”، أم أن الأمر يتطلب إعادة هندسة كاملة لعقد الدولة السودانية؟ بخطى واجراءات استثنائية عاجلة خارج الصندوق لا تحتمل المزيد من التأخير .

رابعاً: الدروس المقارنة
يمكن قراءة الحالة السودانية في ضوء تجارب انتقالية أخرى:

•رواندا بعد 1994: أظهرت أن ربط وقف الحرب ببرنامج وطني جامع للعدالة والتنمية كان مفتاحًا للنجاح.
•اليمن بعد 2011: أثبتت أن غياب إدارة رشيدة لمرحلة ما بعد الثورة يفتح الباب لفوضى و لحرب جديدة.
•جنوب السودان بعد الاستقلال: قدّمت مثالاً على أن غياب مشروع اقتصادي متماسك يجعل من السلم نفسه هشًا.

هذه التجارب توضح أن التأسيس المؤسسي والاقتصادي أهم من أي ترتيبات وظيفية او سياسية شكلية.

خامساً: رهانات ما تبقى من العام
في ضوء ضيق الزمن، فإن الحكومة المدنية – التي شكلت وتمارس مهامها حاليا – ستواجه رهانات أساسية في الأشهر القليلة المقبلة:

•رهان التماسك الداخلي: القدرة على خلق تحالف وطني عريض يمنع عودة الاستقطاب القديم، وتعميق حال الانقسام.
•رهان كسب الشارع: تقديم نتائج عملية في الخدمات والإغاثة وكل مطلوبات المسار الحياتي والاستقرار لتعيد الثقة.

•رهان الحياد الإقليمي: تجنب الانخراط في محاور متصارعة، وان الانكفاء على الداخل والتركيز على أولوياته يعزز التلاحم واستمرار السند الشعبي للدولة .

خاتمة

اليوم التالي للحكومة المدنية في السودان ليس مجرد لحظة سياسية بل هو اختبار تاريخي للدولة السودانية ذاتها. فالعام الجاري يوشك على الانقضاء، لكن ما يُنجز في ثلثه الأخير سيحدد إن كان السودان يسير نحو إعادة تأسيس دولته على أسس جديدة، أم أنه يكرر دائرة الفشل والانهيار. التجارب المقارنة تثبت أن النجاح ممكن، لكنه مرهون بقدرة القيادة المدنية على الجمع بين الحكمة السياسية والجرأة التنفيذية في مواجهة لحظة مفصلية لا تحتمل التردد.
لقد أثبتت التجارب المريرة في السودان أنّ إسقاط الأنظمة لا يكفي، وأنّ غياب الرؤية الوطنية الجامعة يفتح الأبواب مشرعة أمام الانتكاسات والانقسامات والتدخلات الأجنبية. ومن هنا، فإنّ خطة اليوم التالي للحكومة المدنية تمثّل فرصة تاريخيّة لا تحتمل التردد ولا المساومات الصغيرة، بل تستدعي شجاعة الاعتراف بالأخطاء السابقة واستلهام العِبر منها لبناء مستقبل مختلف. فالثلث الأخير من العام ليس مجرد تقويم زمني، بل هو نافذة ضيقة لالتقاط الاشارة بنهج مختلف قبل أن يستقر ميزان القوى على واقع يصعب تغييره. وفي هذا المفترق، يصبح الالتفاف حول مشروع وطني مدني رشيد واجبًا تاريخيًا، يحوّل الممكن إلى فعل، ويجعل المستحيل جزءًا من ذاكرة الأمس.
————
٢٢ اغسطس ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!