ضياء الدين بلال
-١-
الحديث مع صديقي العزيز عبد الرحمن حسن لا يمل، تنقضي الساعة وتلحق بها الثانية، ونحن في نشوة الحديث بين قِصّةٍ وذكرى من طابت، وحكاية من المناقل، وضحك بطعم العافية من أرشيف سنوات الطلب ما بين السكن والدرس وداخلية الفاروق و شمبات وطرائف الدامورتي عبدالكريم حجاج..!
وتكتمل المُتعة وتَتَحَقّق فائدة المعارف والخبرات بمكالمة أخرى مع أستاذي الجليل عبد الله سيد أحمد، ذلك الصحفي المُعتق النبيل، صاحب الذاكرة الفولاذيّة التي تحتفظ بنفائس الذكريات في السِّياسة والمُجتمع، ووجدان أخضر يزهر بالأغنيات والأشعار والألحان ولا يعتريه الصّدأ.
أبو لينة الذي غادر السُّودان منذ أكثر من ثلث قرن، ولكن السودان لم يُغادر خاطره للحظة، فهو حاضرٌ لديه في نشرات الأخبار، وقراءة الصُّحف اليومية، والتواصل مع الأهل والأصدقاء، ومع دفق الأغاني وأنفاس الألحان، ومُؤشِّرات حالة الطقس في الدوحة ومروي والخرطوم على شاشة موبايله..!
كان عطاؤه الصَّحفي والإذاعي المُميّز في سبعينيات القرن الماضي، يثري فضاء الإعلام السُّوداني بالأخبار الطازجة، والتعليقات الذكيّة، والتحليلات الصّائبة، فجاء إلى دوحة العرب بكل ذلك الألق الرّصين والرّصيد الثّمين.
-٢-
بدات الحديث نهار أمس مع عبد الرحمن، عن شاعرنا المُرهف أبو آمنة حامد وقاموسه الشعري البديع، الوريف الظلال، العميق المعاني، وصوره الجماليّة الأخّاذة في (وشوشني العبير وسال من شعرها الذهب وبنحب من بلدنا) وغيرها من الروائع.
قلت لأبي حسن من أين أتى هذا الأدروب بهذه التشبيهات، الصافية، الزاهية، البادعة، التي لا تُعبِّر عن بيئتنا الكالحة، ومُنتجاتها من الثمار الجافّة، ومناخنا المُضطرب بين صيفٍ قائظٍ، وشتاءٍ جافٍ، وربيعٍ غائبٍ، وخريفٍ يُخطئ ويُصيب.
كرزة حفّها العنب، وشعر يسيل بالذهب، وعبير يوشوش الوجدان، وورد وزهر يرقص في مهرجان على النهر، وكأس يعود بلا حبب.
وما بين العبير والكرز ورقص الورود على النهر، تُفاجئك الحكمة العاطرة: (الرهيف قلبو بعيش في شكو أكتر من يقينو)، وتُدهشك فدائية الاحتمال والبذل والعطاء: (نحن شلناك في المُقل وقعدنا على اللّهب).
ولكن كيف كانت النهائيات موجعة حينما عجزت مُؤسّسات الدولة عن حماية كهولته من غوادر الزمان، وصون رمزيته من جوائح الأيّام وكثير غير ذلك لا يقال..!
-٣-
وفي الحديث الهاتفي مع العزيزين عبد الله وعبد الرحمن، ذكرت لهما نماذج من إهدار الرمزيات في السُّودان، وكيف أنّ قامة فنية رفيعة مثل الأستاذ الموسيقار محمد الأمين تضطره الظروف والأيّام، وهو صاحب الروائع الغنائية الخالدة (زاد الشجون والحب والظروف وبتتعلم من الأيام)، لأن يضع كل ذلك في خدمة الترويج لإعلان تجاري باهت الشكل، فقير المُستوى والمضمون، يُروِّج لمُنتج شاي الغزالتين ؟!
أمثال الأستاذ ود اللمين في الدول التي تحترم رموزها، وتُقدِّر تاريخهم، وتصون قيمتهم من الهدر والابتذال، يصبحون سُفراء نوايا حسنة للمنظمات الأمميّة في القضايا الاجتماعية الكُبرى، لا مُعلنين للشاي والبُن والكبتشينو ومرقة الدجاج..!
-٤-
أذكر في زواج صديقنا الحبيب محمد عبد القادر أبو حباب، كان خياره في ليلة الزفاف أن يختار الفنان الكبير محمد الأمين لإحياء ليلة العُمر.
وحينما اعترض البعض على ذلك الاختيار المُفاجئ، باعتبار الأستاذ محمد الأمين صاحب اسم كبير على مُناسبات الزواج، وأغانيه ذات قيمة عالية لا تتناسب مع ما تَتَطَلّبه الأعراس من (هجيجٍ وجبجبةٍ).
كان رد أبو حباب البليغ الحصيف، إنّه يُريد تخليد زواجه من (رفيعة الحاج) بمشاركة قامة فنية رفيعة الوزن والقيمة مثل الأستاذ محمد الأمين، حتى لا تغيب ذكرى المُناسبة عن ذاكرة الحاضرين مهما طال الزمان.
-٥-
قبل زمان مضى بالسنوات، لا أعرف هل قرأت هذه القصة أم استمعت إليها من شقيق أو صديق؟!
لم تعد الذاكرة في تمام حُضُورها ولا أرشيفها، وفي مُتناول الاستدعاء حين الحاجة لذلك.
قرأت أو قيل لي ربما، إنّ في تاريخ الفن المصري تحتفظ ذاكرة القاهرة بقصة مُعبِّرة ومُثيرة، تروى كيف أن الموسيقار محمد عبد الوهاب احتاج في مرة لكورال شبابي يُردِّد خلفه بعض المقاطع الغنائيّة، وكان ضمن المُتقدِّمين للمُعاينة الشاب عبد الحليم حافظ قبل شُهرته وذياع صيته.
فُوجئ عبد الحليم باستبعاده من قائمة المُختارين، ولم يكن بمقدوره العودة لمنزله دون معرفة أسباب الإبعاد، وهو مَن يجد نفسه أفضل بكثير من الذين تمّ اختيارهم.
ظلّ حليم تلك الليلة في انتظار عبد الوهاب لمعرفة سبب التجاوز في الاختيار.
فكانت إجابة الموسيقار: (يا ابني أنت فنان حقيقي، وسيكون لك مُستقبلٌ باهرٌ، ولا أريد أن يأتي يوم يُقال فيه إنّك كُنت ضمن كورال فنان آخر).
-أخيراً-
هكذا هي المُجتمعات المُتقدِّمة حضاريّاً، تُحافظ على رمزيّة نجومها في المُستقبل، ولا تهدر قيمتهم التاريخية في الماضي، كما فعلنا مع أبو آمنة بإهمالنا، وفعلت شركة (شاي الغزالتين) بابتذال قيمة المُوسيقار محمد الأمين..!