شهدت العاصمة الخرطوم الخميس 26/5/2022م واحدة من أكبر ليالي الوفاء والحب والعرفان، بإحياء الذكرى السنوية الثانية للرمز الصوفي الكبير والعالم الأكاديمي المستنير والقمر الاجتماعي المنير، المخبت الذاكر، والزاهد العابد، التقي الورع، الشيخ الدكتور أحمد الطيب الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله، سليل الدوحة الوريفة، والسلسلة الذهبية الشريفة، وقد أكرمه الله واصطفاه لأفضل الأخلاق وأفضل الصفات، حتى أصبح رمزاً تتجسّد في شخصه النادر كل صفات المثال التي يسعى إليها كل مسلم ينشد المثال. كان متواضعاً لاتكاد تميزه بمكانته بين الناس، إلا بهالة الصلاح وسمت الولاية، ورعاً لأقصى درجات الورع، قانتاً مخبتاً، ذاكراً لايفتر أو يتخلى عن أوراد المريد، وهو الولي المشهود، كان وكأنه مبتديء في مدرسة القوم، يتلمّس الطريق والتسليك، حتى فاض ذلك على سيماه المُضيء الوضيء، ومُحيّاه المشرق الوضّاح، ودواخله النقيّة العامرة التي تفيض بالبِشر والرضا والانشراح. من أراد أن يعرف مكانته في عالم الملكوت، من غير معايير سيرته وهو بين الناس، فاليقف على استفتاء أهل العرفان، وتزاحم رايات أهل الذكر والقرآن، حين شقّ على الجميع نبأ رحيله المؤلم الأليم، في يوم عيد الفطر، وهو يترجم معاني الحديث النبوي (للصائم فرحتان) .. إحداهما عند فطره، فأي فرحٍ ينتظره وقد أدى أماناته والناس شهود الله في الأرض، فقد وهب عمره وحياته للإسلام والمسلمين ولم يستبق لنفسه شيئاً. كذلك في رحيله المؤلم يوم عيد الفطر، كأنه يجسّد معاني قصيدة جده الطيّار المكتنز بالأسرار، الشيخ قريب الله والتي يقول فيها (يومٌ أموتُ به سعيد.. والله ذاك اليومُ عيدُ). كان يوم رحيله المفجع، استفتاءً قهرت فيه الجموع كل احترازات وباء الكورونا، وتدافعوا سيولاً بشرية، كل جموع وافدة، تدخل في الجموع المتزاحمة، في الأمواج المتلاطمة، يحملون الرايات وينشدون نشيد المسيد، فصلت عليه الألوف، وماتفرقوا يتزاحمون حتى تمت مواراة الجسد الطاهر الثرى جوار ضريح أبيه العلم المعلوم، الذي أفاض مفتي الديار المصرية بروفيسور علي جمعة وهو يتحدث عن كراماته حين كان له روّاق مقام عند الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وتفاصيل ذلك منشوره معلومة. الاستفتاء الثاني، الذي يظهر مكانة عالمنا الرمز الكبير الراحل، كان في ليلة ذكراه الثانية قبل يومين، والتي لانظن أنّ العاصمة الخرطوم قد شهدت مثلها قريباً، فقد تقاطر السادات وتزاحمت الرايات وضربت النوبات، ولاتكاد تجد موضع قدم في مكان الاحتفال المخصص، وتحت ضغط الحشود الوافدة تم فك السياج الحديدي لباحة المسجد، لكن الجموع المتدفقة فاض بها المكان فتمت تهيئة مساحات فضاء على شارع الوادي، وهناك شاركت العديد من سجادات التصوف، من الأتباع والمريدين يتقدمهم الخلفاء والمرشدون، حتى ترجّح مطمئناً أنه لم تغب لأهل التصوف سجادة أو طريقة عن تلك الليلة المحضورة الوافدة الحاشدة. وهنا لابد من إشارة وإشادة بالترتيب والتجهيز والإكرام والحفاوة، نجمله في دقة الإعداد وجمال الإخراج، فكان الاحتفال يليق بمكانة الرمز الكبير الراحل، ويليق بالذوق الرفيع والجمال الفاخر الذي يفيض به البيت القريبي خصوصاً والبيت الطيبي عموماً، والحق، فإنّ إطعام الطعام وإكرام الكرام، هو سلوك يومي معتاد في كافة الطرق والسجادات لاتستثني أحداً، وهو مبدأ ودستور كما أشار حكيم أهل الطريق الشيخ العبيد محمد ودبدر وهو يشير إلى أدوات المسيد (الكليمة واللقيمة) و(الدين والعجين)، وهو تلخيص فيه تبسيط ميسّر مقصود خلفه معاني وقيم تملأ كتباً ومجلدات. ومن المهم محاولة ذكر من شاركوا في هذه الليلة العرفانية الكبيرة، رغم أنّه قد يفوتنا ذكر بعض من كانوا ضمن هذه الحشود الكبيرة، نذكر من دون ترتيب، مشاركة أخ الرمز الراحل، عميد الأسرة الطيبية القريبية، الشيخ الكبير بروفيسور أباصالح الشيخ الفاتح، وشيخ الطريقة السمانية بأم مرحي،الشيخ عبدالرحيم محمد صالح الأستاذ محمد شريف نورالدائم،
و الشيخ محمد سرور الحفيان شيخ الطريقة السمانية بطابت، الشيخ الطيب الجد شيخ الطريقة القادرية أم ضواً بان، الشيخ عبد الوهاب الكباشي شيخ الطريقة القادرية بالكباشي، السيد مجدد الإدريسي شيخ الطريقة الأحمدية الإدريسية، الشيخ الأمين عمر الأمين الطريقة المكاشفية أمدرمان ود البنا، الشيخ محمد الريح حمد النيل شيخ الطريقة القادرية العركية بولاية الخرطوم، الشيخ أحمد الشعراني الشيخ زين العابدين. والشيخ أحمد حسين الكولخي الطريقة التجانية، وشاركت سجادات للسادة البرهانية، والسادة الختمية، الشيخ محمد أبوعبيدة الطريقة الرفاعية، الشيخ مجدالدين الأحمدي شيخ الطريقة الشناوية، الشيخ ضياء الدين حسن أحمد العوض الطريقة السمانية، الشيخ مكرم محمد توم الطريقة السمانية، الشيخ السماني الشيخ الوسيلة الشيخ السماني الشيخ بريرودالحسين (شبشة) الشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق الطريقة السمانية سجادة خور المطرق، الشيخ البدوي الشيخ نو الدايم الشيخ برير، وعدد كبير من رموز الإدارات الأهلية، منهم المك غانم المك الطيب المك محمد ناصر مك الجموعية، الناظر محمد سرور رملي ناظر الجميعاب، والمك عجيب الهادي رئيس الإدارة الأهلية بولاية الخرطوم. وقد شاركت أسرة الإمام محمد أحمد المهدي وحزب الأمة وظائفة الأنصار بوفود مقدرة، حيث شارك السيد أحمد المهدي، والسيد عبدالرحمن الصادق المهدي، والدكتور عبد المحمود أبو الامين العام لهيئة شؤون الأنصار.
ومن مؤسسات الدولة في محلية أمدرمان، شارك مدير الشرطة بالمحلية، ومدير المرور بالمحلية، ومدير الشؤون الدينية، كما شارك في الاحتفال عدد من رجال الأعمال، منهم السيد معاوية البرير، والسيد صلاح النفيدي، والسيد علوي درويش، والسيد بابكر الأمير، و د.معز الدقير. كما شارك عدد من مديري وأساتذة الجامعات والعلماء والأكاديميين، منهم مدير جامعة أم درمان الأهلية البروفيسور معتصم أحمد الحاج، وعدد من الشخصيات العامة وأعيان المجتمع، منهم الشيخ عبدالقادر محمد زين الأمين العام للحركة الإسلامية بولاية الخرطوم، ومنهم رئيس حزب المؤتمر السوداني الأستاذ عمر الدقير، وأخيه هاشم الدقير، وجاءت برقيات من منعتهم الظروف من الحضور مثل السيد جعفر الصادق السيد محمد عثمان الميرغني، ومنهم مدير جامعة إفريقيا الأسبق بروفيسور حسن مكي الذي شارك بكلمة أرسلها للاحتفال. كانت ليلة في ذكراه وذكر مناقبه محضورة، وكان الحضور جميلاً وكثيفاً، وقد ذكرنا من ذكرناهم لأجل التوثيق، ولعله يأتي غيرنا لتوثيق أشمل وأدق. وأود أن أشير إلى (نماذج) من علاقات خاصة كانت في الله و لله، منها علاقة الشيخ الراحل بالرمز القرآني فريد عصره أستاذي الشيخ البروفيسور أحمد علي الإمام، الذي من كثرة ماداوم على ختمات القرآن أكرمه الله بالقدرة على مواصلة التلاوة في اجتماعاته وفي حركته وسكونه، إلا حين نومه، كانت تربطهما علاقة وُد، لاقرار لها، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحين أصاب البروفيسور أحمد ما أصابه، ولزم سرير المستشفى، جاءه شيخ الطيب يعاوده، فمنعه الحرس، ثمّ أُذن له فدخل، وما أن رآه صديقه الوفي وهو في حالته تلك، حتى عاد له من الوعي وخفقان القلب حباً وتهللت أسارير وجهه المشرق بنور القرآن، فضمّه إليه وبكيا بكاءً حاراً كما ذكر لي شيخ متوكل يسن، فقد كانت زيارة للوداع الأخير، وقد وهبا عمريهما المباركين لله ورسوله، ولخدمة الإسلام والمسلمين، وجمعهما الله على محبته في سنوات الدراسة بأدنبرة في المملكة المتحدة. علاقة أخرى نذكرها (كنموذج) جمعت الرمز الكبير الراحل بالشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق، مرشد الطريقة السمانية سجادة خور المطرق (بارك الله لنا في عمره وجهده المبارك)، ربما كانت دعوة الشيخ الطيب برير للرمز الراحل للمشاركة في افتتاح مسجد ومجمع الشيخ برير بكسلا، وحرصه على المشاركة بالسفر أو الدعاء الخاص، ربما كان حديث القلب هو السبب في نشوء علاقة خاصة جداً، استكملت بناء وشائج متينة لايستكمل بناؤها إلا في عقود وعقود.. فقد خصّ كلٌ منهما أخيه بكل مساحات القلب لتعمر بأسرار المحبة العميقة، وماكان من سنوات عشر أو تزيد، بعد المناسبة المذكورة، إلا استزادة في حب تأصل وتجذّر وأفرع وأثمر من يومه الأول، وقد ترجم الخليفة الشيخ الدكتور هاشم وإخوانه، معاني هذا الوفاء لعلاقات أبيهم، فأصبح الشيخ الطيب الشيخ برير، كما كان في حياة أبيهم، من خاصة خواص هذا البيت النوراني العتيق، وهكذا رأيناه في ممارضة الشيخ الطيب، ورأيناه في لحظات الوفاة يوم العيد وقد جاء مسرعاً من خور المطرق، وظلّ مع الجثمان واقفاً حتى تمت مواراة الجسد الطاهر، وهكذا كانت علاقة متميزة، وقد رأيناها تتجسّد الخميس الماضي في ليلة الاحتفال بذكرى الرمز الراحل، فقد جسّد الشيخ الطيب الشيخ برير الوفاء تجسيداً وهو يقف معه قومه ومريدوه، يستقبل كل هذه الجموع وكل هذه السجادات وهذه الرايات، الذين بدؤوا يتوافدون منذ ما قبل الغروب إلى منتصف الليل، لم يجلس أو يتخيّر كرسيّه بين الكبار، وقد ودّع بعد منتصف الليل وهو في طريقه إلى نيالا لافتتاح مسجد للشيخ البرعي الذي كانت بينهما ذات الصلة وأكبر. إنهم أهل الله، هاموا في الله، يتعبون أجسامهم في سبيل أداء الأمانة، وكثيراً مايحدث الشيخ الطيب الشيخ برير عنهم حيث يختصر كل ذلك في عبارة (المولى أنابهم) وهو اختصاص واصطفاء، و(إذا كانت النفوس كباراً.. تعبت في مرادها الأجسام).تبقت بعض اشارات عجلى في سيرة الرمز الكبير الراحل، فقد ولد الدكتور الشيخ أحمد الطيب الشيخ محمد الفاتح في العام ١٩٤١م بأم درمان، وحفظ القران الكريم في التاسعة من عمره. ودرس العلوم العربية والشرعية على يد كبار علماء عصره، ونال الشهادة الدراسية من معهد أم درمان العلمي ونال شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة أم درمان الإسلامية، ونال درجة الدبلوم العالي في التربية من جامعة القاهرة، وحاز درجة الماجستير في اللغة العربية من كلية دار العلوم بالقاهرة، كما حاز درجة الدكتوراة في اللغة العربية من جامعة أدنبره ببريطانيا. أشرف واشترك في تقييم عشرات الرسائل العلمية لطلاب الماجستير والدكتوراة، وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية محلياً وعالميا وله العديد من الأبحاث العلمية.
وكان الشيخ الراحل عضواً أصيلاً في عدد من المجامع والهيئات العلمية والاعتبارية في الدولة، مثل مجمع اللغة العربية (حتي وفاته) ومجمع الفقه الاسلامي (منذ انشائه حتي وفاته) والمجلس الاستشاري للتأصيل وغيرها، كما كان عضواً في مجالس ولجان تأسيس أو تطوير كثير من منارات العلم في السودان، فقد كان عضواً في اللجنة العليا لتطوير معهد أم درمان العلمي، وعضواً في لجنة تهيئة المجتمع بمنهج وقوانين الشريعة الإسلامية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر۱۹۸۳). على صعيد الأسرة الطيبية الكبيرة الممتدة، كانت للشيخ الراحل مكانة خاصة، لمايتمتع به من ورع وزهد ونور عرفاني معروف، ومما جعل له وضعاً خاصاً، فقد أجازه والده سيدي الشيخ الفاتح في الطريقة السمانية بإجازة فريدة من نوعها نظراً لاجتهاده، وقد أسس خلاوي الشيخ الفاتح بأمرحي، وكانت له عناية خاصة بمستقر جده الغوث الأكبر، بأم مرحي، مهبط الرحمات والفيوضات، مدينة الأغواث والأقطاب، فقد اجتهد في خدمة الضريح، وأضرحة أجداده، الشيخ البشير والشيخ محمد سرور، لكنه اعتنى أكثر بالواجب المخصوص تجاه مسيد وضريح أبيه الشيخ الفاتح بودنوباوي بأمدرمان.
وكانت للشيخ الراحل دروس في الفقة والتوحيد والحديث بمسجد والده الشيخ الفاتح الذي تولى الإشراف عليه منذ إنشائه، وظلّ يشرف على المحاضرات العلمية التي حاضر فيها كوكبة من زملائه العلماء، كما أسس خلوة الشيخ الفاتح النموذجية للقرآن الكريم والتي تخرج فيها المئات من حملة القرآن الكريم. وأسس معهداً للقراءات القرانية غرب مسجد والده بشارع الوادي. أصبح الرمز الراحل شيخاً للطريقة السمانية الطبية القريبية وخليفة لوالده القطب الكبير الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله منذ العام 2005م وإلى وفاته في العام 2020م. اللهم أكرمه بأفضل ماتكرم به ولياً من أوليائك، وأفض عليه من أفضل صنوف الخير، واغمره دوماً بالنور والسرور والحبور، وقوِّ اللهم خليفته ابنه الشيخ الدكتور هاشم، أعنه كل العون، ومده كل المدد، وكن معه بالتسهيل والتيسير والتسخير، وأكرمنا اللهم بجاههم وجاه آبائهم وأجدادهم، وأفض علينا من الإكرام والنور والسرور دائماً، بكرمك يا أكرم الأكرمين، وبجاه سيدنا خليلك وحبيبك المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.