حلقة الرفض المُغلقة: إعلان الحكومة الموازية في السودان يواجه طوقًا أفريقيًا-عربيًا-أمميًا

في 26 يوليو 2025، أعلنت قوات الدعم السريع المتمردة ، عبر تحالف “تأسيس”، تشكيل حكومة موازية في السودان، فيما وصفه كثيرون بأنه تصعيد خطير يُنذر بمزيد من تعميق الأزمة الوطنية. لكن ما كان لافتًا أكثر من الإعلان ذاته، هو ما تلاه من ردود فعل إقليمية ودولية متسقة وواضحة، لتشكّل معًا حلقة مغلقة من الرفض القاطع والموحد على ثلاثة مستويات: أفريقية، عربية، وأممية. تنسف طموح هذه المجموعة في أية مشروعية .
في 29 يوليو، جاء بيان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي (في اجتماعه رقم 1292) ليعلن رفضًا حاسمًا لما وصفه بمحاولة إقامة كيان حكومي موازي يهدد وحدة السودان وسيادته وسلامته الإقليمية. لم يكتفِ البيان بالإدانة، بل دعا صراحة المجتمع الدولي إلى عدم الاعتراف أو التعامل مع هذا الكيان، في تأكيد على أن المشروع الجديد يمثل خروجًا على الشرعية الدستورية، وخطرًا وجوديًا على بقاء الدولة السودانية موحدة.
هذا الموقف لم يكن منفردًا. في 27 يوليو، سبقه موقف من الجامعة العربية عبّر بوضوح عن إدانة الخطوة، مشددًا على أن تشكيل حكومة موازية لا يمثل سوى تصعيد يهدد جهود الحل السياسي، ويدفع البلاد نحو الانقسام الفعلي. موقف الجامعة بدا منسجمًا مع قلق عربي متنامٍ من تداعيات الحرب، خصوصًا في ظل اتساع رقعة الدعم الخارجي لقوات التمرد وارتباطاتها العابرة للحدود.
وفي 28 يوليو، أضافت الأمم المتحدة صوتها إلى هذا الإجماع، حيث صرّح المتحدث باسم الأمين العام أن المنظمة الدولية “قلقة للغاية” من إعلان الحكومة الموازية، واعتبرته خطوة تقوّض جهود إحلال السلام، وتعقّد المسار السياسي في البلاد. وقد سبقت هذا الموقف تصريحات مماثلة من بعثة الأمم المتحدة السابقة (UNITAMS) ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، محذّرة من خطورة تأسيس سلطة أمر واقع موازية، وما قد يترتب على ذلك من انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة.
ما يجب التوقف عنده في هذه البيانات الثلاثة، ليس مجرد تزامنها، بل تقاطعها في الجوهر: رفض الاعتراف بالحكومة الموازية، التمسك بسيادة السودان ووحدته الإقليمية، والدعوة للعودة إلى المسار السياسي الشامل القائم على الحوار الوطني الجامع لا على السلاح والانقلاب وفرض سلطة الأمر الواقع.
هذا الإجماع يشير بوضوح إلى أن المجتمع الدولي لم يعد يتسامح مع محاولات شرعنة الانقسامات العسكرية عبر فرض سلطات موازية. بل إنه بات يرى أن أي مسار يقود إلى التفكيك السياسي هو بمثابة تقويض مباشر للأمن الإقليمي والدولي، خاصة إذا كان اللاعبون الجدد مرتبطين بأجندات عابرة للحدود كما هو الحال في الدعم السريع.
في الوقت ذاته، يحمل هذا الرفض الجماعي رسالة سياسية بالغة الأهمية: أن السودان لا يزال يحظى بإجماع دولي على شرعيته و وحدة أراضيه، وأن محاولات خلق أمر واقع جديد عبر القتال أو الدعم الخارجي لن تحظى بغطاء شرعي، مهما طالت الحرب أو تعقّدت التوازنات.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل يكفي الرفض السياسي والدبلوماسي لكبح جماح مشاريع تفكيك السودان؟ أم أن المطلوب الآن هو مواقف أكثر صرامة، تترجم هذا الإجماع إلى إجراءات عملية، مثل فرض عقوبات موجهة، أو دعم جاد لمسار سياسي مدني شامل يعبّر عن الشعب لا عن البنادق وما أحدثه من دمار ودماء؟
الردود الإقليمية والدولية حتى الآن تقول بوضوح: لا شرعية لحكومة موازية، ولا مستقبل للمشاريع العسكرية أحادية الجانب. لكن هذه الرسائل ستظل بلا فاعلية إن لم تتحول إلى آليات دعم حقيقي لقوى السلام والتغيير داخل السودان، واستعادة الدولة من فم الاحتراب والانقسام.
خاتمة:
كيف تُوظّف الدولة السودانية هذا الإجماع الدولي
في ظل هذا الرفض المتسق الذي صدر من الاتحاد الأفريقي، الجامعة العربية، والأمم المتحدة، فإن الكرة الآن في ملعب القوى الوطنية السودانية – الرسمية والمدنية – لتوظيف هذا الزخم السياسي والدبلوماسي في إعادة بناء المسار الوطني.
أولًا، يجب على الدولة السودانية المعترف بها إقليميًا ودوليًا أن تتحرك بفعالية لاستثمار هذا الموقف الجماعي عبر:
• تفعيل دبلوماسيتها الثنائية ومتعددة الأطراف، لتأمين تعهدات واضحة بعدم الاعتراف بالحكومة الموازية، بل ورفض التعامل معها اقتصاديًا أو سياسيًا.
• حشد دعم دولي وإقليمي لخطة وطنية انتقالية تُبنى على قاعدة مدنية، وتضم القوى السياسية المؤمنة بالدولة، لا تلك التي تسعى إلى تقويضها واستعادة كراسي حكم متوهمة.
• الاستعانة بهذه البيانات كوثائق سياسية في المحافل الدولية، بما في ذلك مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، والمؤسسات المالية، لإثبات أن أي دعم موجه للكيان الموازي يُعد خرقًا للإجماع الدولي والإقليمي، ويُطيل أمد الحرب.
• مطالبة المنظمات الإقليمية والدولية بتحويل مواقفها إلى التزامات فعلية، كفرض قيود على تحركات قيادات الدعم السريع، أو تتبّع الأموال والتحويلات التي تدعم المجهود الحربي غير الشرعي.
• وأخيرًا، فإن هذا الإجماع يشكّل فرصة نادرة لإعادة بناء الجبهة الوطنية الموحدة حول مرجعية الدولة المدنية، باعتبارها البديل الوحيد الممكن للفوضى والانقسام. سيما وان البناء المدني المكمل للدولة قد اكتمل بتعيين رئيس الوزراء والوزراء وأدائهم اليمين الدستورية.
في لحظات التصدع الوطني، والأوضاع الاستثنائية التي رسمتها الحرب، قد لا يكفي أن يرفض الآخرون تقسيمك؛ بل يجب أن تتحرك أنت كدولة، بسياسات جادة وإرادة وطنية جامعة، تمسك بزمام المبادرة لترتيب بيتك من الداخل، وبناء مشروع سياسي جامع يجد في هذا الرفض الإقليمي والدولي حائط صد ورافعة في آنٍ واحد لاستكمال بناء دولة المؤسسات وانتظام المنظومة التنفيذية المدنية في مباشرة مهامها وبسط سلطانها .
⸻
٣٠ يوليو ٢٠٢٥ م