حكاية أوراكل وبناة الجدار الأول.

إن البدايات الأولى لبيت البرامج جاءت في زمن كانت فيه التقنيات في طور التشكل، حين كانت النظم المحاسبية والمالية الكبرى تعتمد على كوبول، وتنتشر على الحواسيب المكتبية قواعد بيانات مثل دي بيز وفوكس برو، بينما كانت أشهر لغات البرمجة المتاحة في السودان حينها تتمثل في بيسك، وسي، وباسكال ودلفي، وكليبر. ورغم هذا التنوع، بقيت قواعد البيانات هي الحلقة الأضعف، لا تحتمل الأحمال الكبيرة، ولا تتقن تنظيم البيانات أو حمايتها.
ولأن وجهتنا في بيت البرامج كانت نحو النظم الكبيرة—خاصة في قطاعي الاتصالات والمصارف—فقد كان لزاما أن نختار بنية قوية ومستقرة وقابلة للتوسع. فقد كنا نرى منذ وقت مبكر أن مستقبل التقنية في السودان سيتشكل من خلال هذين القطاعين، وأن بناء أنظمة فوترة قوية لشركات الاتصالات، بالتوازي مع أنظمة مصرفية تعتمد على قواعد بيانات راسخة، هو الطريق الحقيقي نحو التحول الرقمي. وقد كانت البداية مع شركة سوداتل، حيث وفرنا لهم أول رخصة لأوراكل في السودان عبر بيت البرامج، وهو حدث شكل علامة فارقة في رحلتنا. وفي الوقت نفسه، بدأ تواصلنا مع عدد من المصارف السودانية التي كانت تبحث عن نظم قوية لإدارة حساباتها وعملياتها الاستثمارية وتدفقات البيانات المتزايدة، وكان انتقالنا معها إلى أوراكل خطوة بثقل كبير في مسار تحديث البنية التقنية المصرفية. وبعد بحث مضن وتجارب متعددة، استقر اختيارنا على أوراكل الإصدار السابع، التي مثلت في ذلك الزمن نقلة نوعية في إدارة البيانات. وهنا تقدم إلى الصف الأول، بثبات ومعرفة وعطاء نادر، الأخ الكريم عبدالرحمن علي محمد خليل – عبدالرحمن أغا.
كان عبدالرحمن هو ربان المهمة وقائد بداياتها. لم يكتف باستيعاب أوراكل، بل تملكها حتى لقب بين زملائه بـ “عبدالرحمن أوراكل”. تلك القدرة العجيبة على فهم لغات التطوير وتقنياتها لم تكن جديدة عليه، فقد بدأ مسيرته مع فوكس برو وابتكر برامج تركت أثرا واسعا، من أشهرها نظام ورش الصيانة الحكومية ببحري وأنظمة المطار. وعندما انتقلت الشركة إلى أوراكل، انتقل معها بذات الرشاقة، وقاد فريق التطوير بمهارة واقتدار. وانضم إليه عدد من أبناء دفعته، في مقدمتهم مبارك منصور، الذي كان ندا في الكفاءة وشريكا أصيلا في بناء الأنظمة. أصبحا معا ثنائيا ملهما، ترك بصمات واضحة في كل نظام خرج من تحت يديهما. وتبعهم نفر مقدر من المهندسين المهرة الذين اكتمل بهم الجدار الأول. ولإنصاف التاريخ، فإن بدايات بيت البرامج مع أوراكل كان لها فضل كبير—بعد الله— إلى خبير أوراكل في الشرق الأوسط، المهندس عمار السجدي (الأردني الجنسية)، الذي تولى تدريب أول مجموعة تعمل على أوراكل في السودان، كان ذلك التدريب بمثابة الشرارة التي مكنت الفريق من خوض غمار الأنظمة الكبيرة بثقة واقتدار، سواء في المصارف أو الاتصالات.
ورغم صخب التقنية وضغط المشروعات وتسارع المتطلبات… كان أكثر ما يثلج صدري هو الصداقة التي جمعتنا داخل بيت البرامج، جو من الود الحقيقي يجعل المتاعب أخف، والنجاحات أعمق، ويمنح المكان روحا تبقى رغم الزمن. هذه الحكاية نحكيها اليوم ليس مجرد تاريخ مهني، بل رسالة للجيل الصاعد بأن ما تهدم يمكن إعماره، وأن ما ضاع يمكن استعادته، بل وبأساليب أكثر عصرية ومرونة وابتكارا.
٢٤ نوفمبر ٢٠٢٥م



