مع بداية ظهور أول خيط ضوء
للفجر ، و على ضوءٍ خافتٍ يتسلل
من ( اللمبة أم عوينة ) ، بعد أن
أوشك ( زيتُها ) على النَفَاد ، كانت
صرخته الأولى على يد ( الداية ) التي بَشَّرت به المرابطات في ( الراكوبه ) ،
و نالت مكافأة مُقدَّره من ( الوالد )
بعد أن عاد من ( الخلوة ) و قد أدى فريضة ( صلاة الصبح ) و ابتهل إلى
الله أن يرزقه إبناً مَرْضِيِّاً تَقَر به عينُهُ ، فجاء مَنْ زاد ( البيتَ ) دِفئاً على
دِفئه ، و إشراقاً على إشراقه ..
إنها ( حكاية ) ميلاده ، و ( حكاوي )
كثيرة كان لا يَمَلّ سماعها من
( جَدَتهِ لأُمِهِ ) و هي تتوسط ( العنقريب ) ممسكة بيدٍ راجِفةٍ ( فنجان القهوة ) .. نشأ ( فتَّاح ) في بيت مستور الحال ، يُظِلُّه الرضا بالقليل و الخوف
من الجليل ..
و منذ صِغره كان باراً بوالدته وظهيراً لإخوته و عوناً لوالده ، إذ يلازمه كظله ، يسارع إليه بالإبريق لكي يتوضأ ،
و يُسْرِجُ له ( حِماره ) الأبْرَق ، و أبرق يعني كل ما اجتمع فيه سوادٌ و بياض ،
و يتبعه إلى ( الحواشه ) ، يَجُرُ معه
( الواسُوق ) ، و هو أداة تستخدم
لتسوية الأرض قبل الزراعة ..
وكان يسُوم الأغنام و يُطعِمها
و يسقيها و يحلبها ..
و شبَّ على الإيثار ، و هو يرى ( أبويه )
يُؤْثِرون الضيوف على أنفسهم و بهم خَصَاصَة ، فيقدمون لهم ما عندهم من قليل طعام ، و يَقْنَعُون بأقل القليل ، إن لم يبيتوا طاوي البطون على مَخْمَصَةٍ لاسِعَة ..
و لعله كان كثيراً ما يلحظ ( يد والده )
و هي لا تمتد كما ينبغي للطعام ،
بحجة أن ( نفسه مسدودة ) حتي
يفسح للضيف فيما هو متاح من
( طعام ) ..
و هي نشأة ظل حَفِيَّاً بها كل أيام
عمره من بعد ، و ظل يحكي تفاصيلها بكل اعتزاز كلما وجد إلى ذلك سبيلا ..
و مما كان يرويه أنه عَمِل ( طُلبة ) باليومية ، مع أحد ( البنايين ) الغِلاظ ،
و عندما لم يحسن التصرف مرة قَذَفه بما في يده فسال الدم من جَبِينِهِ ،
و ترك هذا الأثر البائن ، و الذي لا يزال يُذكِّرَه بتلك الأيام ، و هي أيام على
قسوتها و شظف عيشها ، إلا أنها
كانت مملوءةً بركةً و راحةَ بالٍ .. تدرج في المراحل الدراسية ، مُزاوِجاً
بين التحصيل و العمل في أوقات
فراغه ليسد حاجته و يؤمِّن لوالدته
ماتشتهي مما لا يطاله دخلُ ( الأب ) المتواضع ، و لم يقعد به العمل عن
نيل الدرجات العُلا فقد كان مقعده
مع السابقين الأوائل ..
و كان محبوباً بين زُمَّالهِ في الجامعة ،
مواظباً على أداء صلواته ، و كثيراً
مايلتف حوله نفرٌ من خُلَصَائِهِ
ليأنسوا إلى صوته العذب فقد كان
مُولَعَاً ( بالدوبيت ) ، يردد مع ( عكير الدامر ) عن حال الدنيا ..
( سِرورِك مابِتِم عاقْبَاهو دِيمَه
الفجعة
و ظاهرِك لينا سُكَّر إلا طعمك
وجْعَة
كم طَفَشْتِي مُرتاح و قلبو مابي
الهجْعَة
روحو تَشَابي وانتي قَطَعْتي خط الرجعة ) ..
و يُعَرِّجُ على الذري ( إبراهيم عوض ) ،
و هو يغني للشاعر الفَذ ( عوض أحمد خليفة ) ، من ألحان الوديع ( عبداللطيف خضر و د الحاوي ) ..
غاية الآمال ..
( في عالم الأشواق لو مرة عشت
مَعَايَّ
و بلهفة العشاق حسيت معاني
هَوايَّ
كان ياجميل حنيت و رددت معنى
غُنايَّ
و سقيتني كاس الريد و عادت ليالي هَنايَّ )
فقد كان بين من ينجذب إلي مَرْتَعِهِ حسناء قد حان قِطافها ، فخفق لها قلبُه ، و همَّ بها ، أي بزواجها ، إلا أن مانِعاً قد صرفها عنه ، فسار هو في طريق و سارت هي في طريق لا نفسه إلى قرار و لانفسها إلى استقرار ..
و لسان حالهما ..
( ربما تجمعنا أقدارُنا
ذات يومٍ بعد ما عزَّ اللقاء ) .. بدا مُتنازعاً بين الوظيفة و العمل
الحر ، و لكنه آثر أن يشد الرحال إلى
( السعودية ) ليستقر به المقام في
وظيفة مُعتبره ..
لم يكن سعيداً بالبُعاد ، و هو المسكون
بحب ( الجِريف ) و ( اللوبيا )
و ( مشاوير العصاري ) و ( لمة الحِبان ) ، و كلما تَسَعَّرَت نار الغربة
و اضطرمت بين جوانحه يغرس
( شريط الكاسيت ) في ( المسجل )
ليُطْفىء أوارها اللافح مع ( وردي ) ،
و ( صلاح أحمد إبراهيم ) ، و ( الطير المهاجر ) ..
( غرييييب ..
وحيييييد في غربتو
حيرااااااان ..
يكفكف دمعتو
حزنااااااان..
يغالب لوعتو
ويتمنى
بس لي أوبتو
طال بيه الحنين
فاض بيه الشجن ) ..
و لعل أول ما فكر فيه أن عجَّل باستقدام ( والديه ) لأداء فريضة ( الحج ) حيث نعِم بدعائهما له بأن
يطرح الله البركة فيه و يرزقه الذرية
الصالحة ، و بعد تسعة أعوام قدر
الله أن ينتقل ( الوالد ) إلى رحابه ،
ثم لحقت به ( الوالده ) بعد ثلاثة
أعوام .. و كان أكثر مايُشغل باله و يقُضّ مضجعه في ( مُغْتَرَبِهِ ) أن يجد من يطيب معها العيش ، فما أن يغمض جفنيه حتى تتراءى له الأماني العذبه فيحاكي حالُه حالَ من سئل يوماً عن
أي شيء أدْوَّم إمتاعاً ؟ فقال : ( المُنى ) ..
( مُنىً إن تكن حقاً تكن أحسن المُنى
و إلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
أمانيَّ من سُعدى عِذاباً كأنما
سقتك بها سُعدى على ظمأٍ بردا ) ..
و لم يتمادى به ( المُنى ) حتى وافاه
( شريط فديو ) من شقيقته ، يُصوِّر
حفل زفاف أحد أقربائه ، في ( بحري سِر الهوى ) ، و قالت له وهي تهاتفه : ( عايزاك يا فتَّاح تَرَكِّز مع البت اللابسه فستان ماكسي طويل فيروزي ، غايتو دي أنا بعْرِفا و بعرف أهْلَهَا ، إن شاء
الله تكون من نصيبك و ما بَخْزِلك ) ..
و اللون الفيروزي هو الأزرق الفاتح المتدرج للأخضر ليُشبه أمواج البحر .. و لما كان ( فتَّاح ) ينظر إلى الحياة
بأُناسِها و أشيائها بعين الرضا
و الارتياح ، فلم تكن تؤرِّقه كثيراً مواصفات بعينها لشريكة حياته ،
فقد كان مُعتدلاً ، يجنح إلى التوسط
في نظرته و انفعاله بالأشياء ، كما
الجميل ( عبدالوهاب هلاوي ) ،
و هو يتحدث عن نفسه مُتداخلاً
مع الأستاذ الموثوق المُوَّثِق
( أمير أحمد ) في مُلتقى المخرج
المِفَن ( شكرالله خلف الله ) ،
و هو مَنْ يجمع الحبايب و يأتي
بالعجايب ..
( لا توجد امرأه غير جميله في هذا الكون .. لا توجد .. ويبقي الأمر برمته رهن قلب من يري .. شفافيته .. فكره وثقافته وقناعاته في الحياة ..أنا شخصيا لا تستهويني فكرة الجمال المطلق .. انا وسطي الهوي .. وسطي في كل شئ .. كنت اجلس يوما في الفصل علي كنبة الوسط .. ترتيبي وسط .. كل شي في حياتي يقف عند منطقة الوسط ..
الوسط اراه منطقة الدفء والأمان ) ..
نعم ، أوافقك يا ( هلاوي ) ..
إن الجمال في عين الرائي ..
و الروح المُفْعَمَة بالجمال هي التي
تخلع على الأشياء من جمالها ما
يجعلها أكثر جمالاً ..
و كان أن تزوج ( فتَّاح ) ذات ( الفيروزي ) ..
و وجد فيها أجمل ما يبحث عنه
الرجل في المرأة ، وضَاحَةً في
وضَاءةٍ على دماثةِ طبعٍ و ظَرافة ،
فَشَقَّت له دروباً في الأرض
و فتحت له نوافذ إلى السماء ،
و أنجبت له فارسين وسيمين ،
و كريمتين مليحتين ، حَمَلَهُم على
نقاء السريرة و أقوم السلوك
و المسالك .. و هو في ( مُغْتَربِهِ ) بنى منزلاً واسع الأرجاء ، في ( الخرطوم ) ، أصبح قبلة
لأهله و معارفه و ذوي مودته ، بعد أن
عاد بلا رجعة ، و انخرط في تجارة
( السمسم ) ، و ملؤ خاطره كلمات
تلك الأغنية التي كانت تسبيه و تشجيه في ريِّقِ شبابِه في ( حفلات الأعراس ) ..
( ياسمسم القضارف
الزول صغير ما عارف ) ..
و كيف كان يَتَقَافَز ثَمِلاً مُعرْبِداً عند ..
( ياحبيب بريدك ريده
ريدة الحمام لي وليده ) ..
و كيف كان يرفرف عالياً بكلتي يديه عند ..
( لو ما بخاف الرُقَبَه
بسكن معاك في العقبة ) ..
و هي تجارة عوضه الله منها ما خسره
يوم أن زيَّن له أحد معارفه أن يشاطره
البيع و الشراء في ( العربات ) ، فظل يرسل له ما يفيض عن حاجته من مال فمَكَر عليه مكراً كُبَّاراً ، بحجة أنه قد خَسِرَ و وقع ضحية احتيال ، و هو المُحتال .. كان لا يفتأ يردد : ( قل لن يصيبنا إلا
ما كتب الله لنا ) ، في كل شأنٍ و مع
كل نَفَسٍ ، و يواظب على أداء صلاة
الجمعة مع الشيخ ( سيف الدين
أبوالعزائم ) ، رحمه الله ، بمسجده الكائن ( بالسجانة ) ..
و كان معتدلاً ، و يكسوه تواضعٌ جمٌ ،
و مزاجه أقرب إلى المتصوفة الذين
لا يضيقون بأحدٍ و لا يردون أحداً ،
و زادُهم التوكل على الله و مخافته ، فوجد ضالته في يقينيات
( الشيخ محي الدين بن عربي ) ..
( إلهي ما أحببتك وحدي ،
و لكني أحببتك وحدك )
و ( طهر قَلبَكَ ثم اتبعه ) ،،
و ( الطريق طريق الله ، فإذا كان الله
هو الذي يختار فلماذا العبد يُحار ) ،،
و ( إن الله يَعِدُني لما قَدَّره لي ) ،،
و ( الحب لا يعرف الكبرياء ) ..
و كان دائم الاعتزاز أن ( السودان ) لا خوفٌ عليه ، فهو مهد الصالحين ،
الذين لو أقسموا على الله لأبرهم ،
و لو سألوا الله أن تقومَ قيامة قومٍ لقامت قيامتُهم ..
و هذه ( المحبة ) الصوفية المُتَّقِدة
قادته إلى ( كدباس الشيخ الجعلي ) ،
و (طابت الشيخ عبدالمحمود ) ،
و ( زريبة الشيخ البرعي ) ، ( و خلاوي
الشيخ عبدالغفور بالكتياب ) ،
و ( أم ضواً بان ودبدر ) ، و ( أبو قرون
الشيخ عبدالقادر ) ، و سُوح الشيخ
( دفع الله الصايم دِيمه ) ، و ( ضريح
الشيخ الفاتح قريب الله ) ، و ( مسيد
شيخ الأمين بود البنا ) ..
و كان يصحو و ينام على ..
( بوريك طِبَك
أحسن فيمن عاداك و من يَحِبَك ) .. قبل أن تتزوج كُبْرَى البنتين و ترحل
إلى مسكن نسابتها ، و قبل أن يُزف الإبن الأصغر إلى إبنةِ عَمِهِ ، كانت الحياة تمضي في هذا البيت على
نحوٍ مُفْعَمٍ بالمودة ، مع أمٍ راضية
و سعيدة بهذه الزيجة ، و هي سعادة تغمرها كلما تسللت إلى ( الدولاب )
و ألقت نظرةً مُمْتَنَّةً على ( الفستان الفيروزي ) الذي تحتفظ به كأغلى
و أحبَّ ذكرى ..
و ( فتَّاح ) يسوس الجميع برفقٍ
و تلَطُّفٍ ، يحاورهم و يجادلهم بالتي
هي أحسن لا بالتي هي أخشن ..
لقد كان ( فتَّاح ) مريخابياً متعصباً ،
و أبناؤه يعشقون الهلال ، و الأم لا إلى هؤلاء و لا إلى أولئك ، و إحدى بناته مُحْتَجِبة و الأخرى تميل إلى السُفور ،
و كانوا عندما يجتمعون على ( صينيةالغداء ) التي لا تخلو من
( أم رقيقة ) أو ( خُدره مفروكة ) ،
يتحدثون في كل شيء إلا ( السياسة ) التي ينفرون من الحديث فيها كما ينفر ( السليم ) من ( الأجرب ) .. و مرة جاءهم مُغْتبطاً بحصوله على
كتاب ( من نافذة القطار ) للعلامة البروفيسور ( عبدالله الطيب ) ، في
( الدار السودانية للكتب) ..
و أنشأ يحدثهم عن ذكرياته مع ( القطار ) ، و أول مرة رَكِبَه ، عند
قَبُوله في ( الجامعة ) ، و قد جاء
إلى ( المَحَطة ) ، بعد أن ألْقَت
بهم ( المُركب ) على ( القيفة ) ،
جاء مصحوباً بجَمْعٍ غفيرٍ من المُوَّدِعِين ، و هو ينوء ( بشنطة
حديد ) كانت و الدته قد وضعت
له فيها ( حجَاب ) من ( العين ) بين تلافيف ( الهِدُوم ) ، و وضعت في
جانبٍ منها ( كِيسَاً ) من ( الكعَك )
و ( صُرَةً ) من( التَمُر ) ، مع دعائها له :
( ربنا يفتح عليك يا فتَّاح و يغَتِيِك ،
مَحَل ما تَقَبِل ) ..
و امتد الحديث عن ( القطار ) في
( الغناء ) المعبر عن وجدان كل
( سوداني ) و ( سودانية ) .. و ذَكَر
فيما ذكر ..
( قطار الشوق متين ترحل تودينا ) ..
و ( القطار المرَّ فيهو مرَّ حبيبي )
و ( من بَفْ نفسك يا القطار
و من رزيم صدرك قلبي طار )
و ( القطار دور حديدو
مني شال زولي البريدو )
و ( القطر القطر نويت السفر ) ..
و ( قطر الخميس الفات ) ..
و هنا تدخلت ( فيروز ) ، و هو
الإسم الذي ( يُدَلِعُها ) به عندما
يَتَوَدَّدُ إليها ..
”نسيت أهم أغنية يا ( فتَّاح )” ..
و ( القطر الشالك إنت
يتكسر حتة حتة
و تسلم لي إنت ) ..
فالتقطت ( البنت الصغرى ) تلك
النظرة الحيِيَّة التي التمعت في
مُقْلَتيْها ، فقالت ضاحكة ..
( لكن ما عملتيها ظاهره يا أمي ) ..
و يالها من ذكريات دائمة الاخضرار ، تزحم الخاطر و تعشعش في الوجدان .. و ذات مساءٍ مُقْمِرٍ من شهر ( رجب ) ،
و الذي يفصله ( شعبان) عن شهر ( رمضان ) ، امتلأت باحة المنزل بمن جاؤوا يطلبون ( يد ) صغرى بناته ..
و جلس أهل ( الخاطِب ) قِبالة أهل
( المخطوبة ) ، و أنشأ كلُ فريقٍ يعَدِّد
مآثرَ قومِه و عُلُوِ كَعْبِهم ، و حينها لم
يكن ( فتَّاح ) سعيداً ، و جلس شارداً واجماً ، وسحابة حزنٍ كظيمٍ تظلل وجهه ، و كأن هاتفاً قد أوحى إليه بما جعله على هذا الحال الواجف..
و كان أن استجاب على مَضَضٍ لرجاء
أهل ( الخاطب ) بإكمال ( العقد ) في
هذه الجلسة المحضورة و المباركة ..
و بعد أن ارتفعت أصوات النساء
( بالزغاريد ) و ( الأهازيج ) ، و تَدَانت رِقابُ الرجالِ عِناقاً ، و دارت أطباق الطعام تِباعاً، تم تحديد خامس أيام ( عيد الفطر المبارك ) موعداً لاتمام مراسم الزواج .. و من فوره شرع ( فتَّاح ) في التحضير
لهذه المناسبة السعيدة ، بالرغم مما
كان يعْتريه من إحساس قاتمٍ شديد الوطأة ..
أبلغ أقاربه النائين باتمام عقد ( ابنتهم )
و موعد الزواج ..
و مضى في طِلاء البيت و اكمال ما
نقص ..
و قرر أن يلتئم الفرح في ( الميدان )
الكائن أمام البيت عِوضاً عن ( الصالة ) ..
و أوكل إلى بعض أقاربه مهمة حصر
من يلزم توجيه رقاع الدعوة إليهم ..
و منح ( زوجته ) ما يلبي حاجتها
و ( ابنتهما ) من المال ..
و أعد ( الذبائح ) و هيأ ( الطباخين ) ..
و اقترب اليوم الموعود ، أي خامس
أيام العيد ، فإذا الخرطوم ممزقة الأوصال ، و مضرجة بالدماء ، و بنوها مابين خائف يترقب ، و هائمٌ على
وجهه تتقاذفه الفِجاج ، و الكلُ
ملسوعٌ موجوعٌ مفجوع ، و لا تكاد تسمع غيرَ زفَراتٍ حرَّى مالها خُفوتٌ
و لا انقضاء .. مضت أربعة أشهر حُسوما ، ليلها
كنهارها ، و ( فتَّاح) يُقاوِم رجاءات
ذَويهِ بالخروج بيقين راسخ ، ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) ، و بقي
على هذا الحال ، حتى بعد مغادرة
جيرانه ، باستثناء من هم في ظهره ..
و قد سبق و بإصرار منه أن غادر
إبنه مع أهل زوجته إلى ( بورتسودان ) ،
و إبنته مع زوجها إلى ( القاهرة ) كحال
الكثيرين الذين تفرقت بهم (الدروب) ..
( دروب ) الشتات ..
و يا ( دروب ) لي وين تودي
و يا ( أحزان ) لي متين تعدي !!
و بعد يومٍ مُثْقَل بالعَنَت و الرهَق ،
جلس إلى ( زوجته ) و ( ابنه )
و ( ابنته ) ، و أخذ يحدثهم بمشاعرٍ كادت تجري في مآقيه ، مما استرعى استغرابهم ، و كان باعثاً لمخاوفهم ،
و هو مالم يألفونه منه ، و لعل ( فتَّاح ) كان أسير خَطَرَات تُوحي إليه بأن أجله قد دنا و اقترب ، و قد ظل هذا الإحساس يتعاظم منذ يوم ( عقد القران ) ، و الذي لم تكتمل
مباهِجُهُ بعْد .. و انصرف يجر رجليه و أوى إلى فراشه ،
و ما أن أغمض عينيه ليستجدي النوم ، حتى سمع طرقاً عنيفاً يكاد ينخلع له البابُ العَصِيّ ، فأطل من النافذة ليقع بصرُهُ على ( تاتشراتٍ ثلاثة ) ، فأسرع
إلى من معه من ( أهل بيته ) ليخبرهم ، و قد استبد بهم الهلع ، أن من بالباب هم ( الدعَّامة ) ، و أشار إلى ( ابنه ) بضرورة أن يتسوَّر حائط الجيران مصطحباً والدته و شقيقته ، وفي هذا الأثناء وضع ( طاقيته ) على رأسه ،
و قصد ( الباب ) ، و شرع في فتحه
على مهلٍ ليطمئن إلى أن ( ابنه ) قد أنجز ما أمر به من اجلاء ..
و ما أن فتح الباب حتى اندفع نحوه
مايزيد على ( العشرة) أشرار ، و هم يُصوِّبون نحوه ( كلاشاتهم ) ، و كأنه كتيبة مدججة لا فرد اعزل .. هاله قُبح مرآهم ..
فوجوههم عليها غَبَرَة ترهقها قَتَرَة ..
و عيونهم يطفح منها الشر و الشرر ..
و تَصْدُر عنهم روائح أشبه برائحة ( الجنائز ) ..
و كل من يراهم يحار في أمرهم ،
و يجِدُّ به التِسآلُ ..
من أيِّ كوكبٍ هبطوا !!
و من أيِّ فِجاج الأرض أتوا !!
و من أيِّ مغارات سحيقة إنسلوا !!
و من أي جحيم خرجوا لتستحيل
حياة الناس على أيديهم جحيماً
و عذاباً أليماً !!
لقد أوسعوه سباً و شتماً و تقريعاً ،
قبل أن يطلبوا منه إخلاء ( البيت )
و تسليمهم مفاتيح ( العربتين )
و ( الخزنة ) ، ليقابل طلبهم
و وعيدهم بِتَأَبَّي و عزيمة ( سوداني )
عزيز لا يرضى الضيم ، و إيمان الذي يستيقن أن من مات دون ماله أو أهله أو نفسه أو دينه فهو شهيد ..
عندها لم يتوانوا ، و لم يردعهم
وازعٌ و رادع و هم المتجردون من كل وازعٍ و رادع ، فأطلقوا عليه وابلاً من الرصاص و كأنهم يتسابقون في قتله إلى ( نار جهنم ) ، و لم يتركوا في
جسده المُنهك مكاناً إلا و فيه أثر
نازف لرصاصةٍ قاتلةٍ ، ماعدا وجهه الذي بدا مُشْرِقَاً و كأنه وجهٌ قادمٌ
من ( النعيم ) ، و شِفاه رطبة بقوله
تعالى ..
( قُل لَّن يُصِيبنا إلا ماكتب اللهُ لنا
هُوّ مَوْلانا و على اللهِ فَلْيَتَوَّكَلِ المؤمِنون ) .. ويااااا ( فتَّاح ) ..
نمْ هانئاً مطمئناً في مرقدك ، فإن
الله قادر أن يعوضك في مماتك ما
كنت ترجوه في حياتك ..
و هو ما ستسفر عنه الأيام ..
و ها هو الرجاء في الله لا يتخلَّف ..
و بعد حِين ..
فإنَّ الله قد إقْتَصَّ لك من قَتَلَتِك
بشرِ قِتْلَة ، و أبدل خوف الناس أمنا ..
و إنَّ زوجتك لا تزال تَقَر عينها بإدامة
النظر إلى ( الفيروزي ) و هو كل ماحرصت على اصطحابه من أشياء البيت ، حتى لحقت بك ، و قُبرت
إلى جانبك ..
و إنَّ ( ابنك ) قد اقترن بابنة صديقك
( السر ) و الذي كنت لا تفتأ تُحَدِّث
عن أفضاله عليك و حبك له ..
و إنَّ ( ابنتك ) قد تعافت من ( الكَسْرٍ )
الذي أصاب يدها و هي تقفز الحائط إلى بيت الجيران ، و قد اكتمل زواجها ،
و بكَّرت بولدٍ أطلقت عليه إسم ( فتَّاح ) ..
فنم قرير العين ، و عليك رحمة من
الله و رضوان ، إلى حين اجتماع
الخُصوم أمام الديَّان ..
و السلام ..
١٠ سبتمبر ٢٠٢٣ ..