الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

حرب السودان : تجربة مختبرية فاشلة

د. اسامة محمد عبدالرحيم

لم يعد مفهوم الحرب في القرن الحادي والعشرين محصورًا في مواجهة عسكرية تقليدية بين جيوش نظامية، بل تحوّل إلى ساحة مركّبة تتداخل فيها أدوات السياسة والاقتصاد والتقنية والإعلام والمجتمع. وفي هذا الإطار، تبدو الحرب الجارية في السودان بين القوات المسلحة و مليشيا الدعم السريع المتمردة تجسيدًا حيًا لما يُعرف بـ”حروب الجيل الخامس”، وهي حروب معقدة ذات طابع غير خطي، تُخاض بأدوات متعددة، وتدار من غرف مظلمة خارج الحدود أكثر مما تُدار من داخلها.

حيث تشير المعطيات المتراكمة إلى أن هناك دولاً بالاقليم قد تبنت مبكرًا، رؤية تهدف إلى إعادة تشكيل الحكم في السودان و اعادة صياغة انظمته و مؤسساته الوطنية بل حتى مجتمعه المحلي ، عبر أدوات غير مباشرة تعتمد على القوة المسلحة. وقد وجدت (هذه القوى الاقليمية و التي قد تكون هي نفسها تؤدي وظيفة لغيرها) في قوات الدعم السريع المتمردة بقيادة المتمرد محمد حمدان دقلو (حميدتي) الأداة العسكرية(لمشروع التغيير بالوكالة) و التي يمكن توظيفها لتنفيذ هذا التغيير، خارج الأطر الديمقراطية والمؤسسية.

ورغم أن الخطة الدولية و الاقليمية سعت إلى تحقيق هذا التحول عبر اتفاقات سياسية وشراكات ظاهرها مدني، إلا أن فشل هذه المحاولات في تحقيق اختراق كامل للمنظومة السياسية والعسكرية السودانية، أدى إلى انفجار الوضع ليأخذ شكل حرب مدمرة، لا تزال تشتعل و ان ضاقت ساحات انتشارها و بدت في الانزواء و الحصر تجاه اقاليم غرب البلاد.

بالتوازي، سعت بعض القوى السياسية المدنية إلى تقديم نوع من الدعم السياسي و المدني لقوات و مليشيا الدعم السريع المتمردة و توظيفها كذراع عسكري يمكن أن يمنحها تفوقًا على القوى التقليدية داخل الدولة، خاصة الجيش. ووجدت هذه القوى في الرعاية الإقليمية و الدولية سندًا ماليًا وإعلاميًا وسياسيًا. وهو ما خلق تحالفًا هجينًا بين مليشيا مسلحة وقوى مدنية، هدفه الوصول إلى السلطة على أنقاض الدولة الوطنية. لكن هذا التحالف لم يُنتج سوى كارثة وطنية متكاملة الأركان، تحولت فيها المدن إلى ساحات قتال، والمجتمع المدني إلى رهينة بين جبهات الحرب والدعاية المضللة.

إن من أبرز مظاهر هذه الحرب كونها تدار داخل المدن الكبيرة ( الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري،مدني، سنار ، الابيض ، الفاشر، الجنينة, نيالا وغيرها)، في نمط قتالي معقّد يمزج بين القتال غير النظامي، والسيطرة على مراكز الدولة، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، والاعتماد على الإعلام والدعاية كأدوات حرب موازية. حيث يعد هذا النمط من الحروب أحد سيناريوهات “حروب الجيل الخامس”، التي تسعى فيها القوى المحركة إلى استخدام بيئة المدن لإضعاف الجيوش النظامية، واختبار أدوات تفتيت الدولة دون الحاجة إلى غزو خارجي مباشر.

و لا يمكن استبعاد أن تكون الحرب في السودان، من حيث تخطيطها وسيرها وحتى طبيعة أطرافها، بمثابة تجربة ميدانية لقوى إقليمية ودولية، يتم من خلالها اختبار( سيناريوهات السيطرة غير المباشرة، تفكيك الدولة من الداخل، وتوظيف أدوات الحرب غير التقليدية) . بمعنى آخر، قد تكون هذه الحرب جزءًا من نموذج يتم تطويره وإعادة هندسته، بعد استخلاص دروسه العملية و العلمية.

ان اهم الموضوعات التي يُحتمل أنها كانت قيد الاختبار والتجريب في (حرب الكرامة) المفروضة على السودان، و من واقع متابعة دقيقة و متواصلة لسير الحرب منذ لحظاتها الاولى لا تخرج من الآتي:

1) امكانية تفكيك الدولة المركزية و تقويض سلطتها باستخدام مليشيا محلية و دراسة جدوى الاعتماد على قوة “من داخل النسيج الوطني” بدلًا من تدخل خارجي مباشر. كذلك اختبار إلى أي مدى يمكن لمليشيا محلية أن تضعف، تربك، أو تُسقط مؤسسة الدولة (الجيش، المؤسسات السيادية).

2)كيفية استخدام القوة الناعمة والمعلوماتية من خلال اختبارات ميدانية ل(منصات التضليل، الحرب النفسية، السرديات الإعلامية)، و اختبار إلى أي مدى يمكن تطويع المجتمع وتهيئته ليقبل المليشيا كفاعل مشروع أو شرعي مع امكانية تسويق الحرب عبر الإعلام كصراع بين “المدنية والعسكرية”.

3) الهندسة الديمغرافية والاجتماعية و محاولة إعادة تشكيل التركيبة السكانية و المجتمعية و دراسة آثار (التهجير القسري، الإبادة المحلية، التغيير السكاني) ، ومدى إمكانية إعادة توزيع الولاءات والخرائط الإثنية لصالح مشروع طويل المدى.

4) نقل التكنولوجيا العسكرية الموجهة و تجربة فعالية أسلحة متقدمة مثل (الدرونز، أنظمة المراقبة، الذخائر الدقيقة) مع تجريب كافة انظمة القتال شبه الحضري، كذلك مراقبة الأداء القتالي لمليشيا شبه نظامية مقابل جيش تقليدي في المقابل دراسة مدى تفاعلية الأنظمة و الجيوش النظامية ازاء سلوك المليشيات و القوات غير النظامية و العصابات الاجرامية و استنباط طرق و سبل و اساليب و وسائل للحرب في المدن و المناطق الحضرية و شبه الريفية.

5) تحقيق مفهوم إدارة الحرب دون مسؤولية سياسية أو قانونية، و ذلك من خلال اختبار نموذج “الحرب بالوكالة دون التورط الرسمي” باستخدام جهة غير رسمية كـ”الدعم السريع” لتجنب المساءلة الدولية أو المباشرة.

6) استثمار الفوضى في بناء نفوذ اقتصادي بتجربة مشاريع نهب الثروات (ذهب، موارد، موانئ) في ظل الحرب و مدى نجاح الحلفاء في السيطرة على الميدان الاقتصادي عبر قوى غير رسمية.

7) التجريب على النسيج القبلي والمناطقي و فحص قدرة القوى الأجنبية على إدارة واستثمار الصراعات بين القبائل والمكونات المحلية بما يخدم أهدافها الكبرى، و مدى قابلية المجتمعات الهشة للتفكك تحت الضغط.

كل ذلك، يشير إلى أن ما يحدث في السودان ليس فقط مأساة وطنية، بل يؤدي للتفكير في احتمالية ان السودان قد تم اختياره و تصميم الحرب عليه و فيه كمختبر مفتوح لحروب الجيل الخامس و حقل عملي و واقعي لهذا النوع من الحروب مع تحديد اهداف سياسية و عسكرية تم انتقاءها بعناية و دراسة و العمل على تحقيقها ،ثم يتم بعد ذلك تحليل النتائج وتطوير النماذج لاستخدامها في أماكن أخرى من الإقليم، وربما من العالم.

من زواية اخرى، و استكمالاً لما تم استعراضه من موضوعات و اهداف محملة (موضعاً للإختبار و التجريب)،فقد برزت جملة من النتائج و الدروس العميقة و التي شكلها الشعب السوداني و جيشه البطل و المقاتلين معه و الوطنيين في كل المجالات في مواجهة الاستهداف الممنهج و الممول و المدروس لقوى الباطل و الطغيان و التآمر، أهمها :
1) ان تفكيك الجيوش الوطنية و المنظومات الامنية و النظامية و كافة اشكال القدرة الدفاعية بالقوة الجبرية العسكرية غير ممكن إذا كانت ثقة الشعب بجيشه و ارضه و قيمه و تاريخه راسخة و متجذرة و طالما تحلى الشعب و تسلح بالوعي و والوطنية الحقة ، حينها يصعب زعزعة ثقة الشعب.

2) يمكن لأي مليشيا ممولة جيدًا ومدعومة فنياً و لوجستياً و استخباراتيًا أن تصمد لأشهر أو سنوات، لكن تظل الغلبة في نهاية الامر للجيوش الوطنية النظامية و ان تطاول امد الحرب.

3) جيوسياسيا، اثبتت الحرب انه لا يمكن إعادة تشكيل الخارطة الوطنية لسودان جديد عن طريق نشر الفوضى و اختلاق الحروب و النزاعات و الصراعات، و ان الحلول دوما تظل سودانية محلية داخلية وفق ارادة الشعب السوداني و بما يخدم مصالحه و يحقق غاياته الوطنية و ليس بما يخدم مصالح الجهة الداعمة.

4) سياسياً و ادارياً، ان السيطرة على العاصمة لا تعني السيطرة على الدولة، والعكس صحيح.

5) إجتماعياً ، فشل عملية إضعاف الشعور بالوطنية والمركزية لدى الأجيال الجديدة و زرع ولاءات مناطقية أو قبلية أو مصلحية. كما فشلت كذلك محاولة خلق “مواطن جديد” مستعد لقبول أي واقع يوقف الحرب، ولو كان قسريًا أو مجتزأ السيادة.

6) إقتصادياً، اكدت نتائج الحرب انه لا يمكن نهب الثروات القومية او اخذها بلا مقاومة حقيقية تحت غطاء الفوضى او تحت الضغط ، أو باتفاقيات مع أطراف غير شرعية، و يظل امر تبادل الثروات او الاستثمار فيها محله التراضي و تبادل المصالح على اسس سليمة حجر زاويتها فائدة كل الاطراف.

ان (التجربة) التي تم اجراؤها في معمل (حروب الجيل الخامس) عملياً على السودان،و التي فشلت بامتياز، ينتظر بعد تطويرها و تحسينها و ازالة الأخطاء التي لازمتها، و بعد الاستفادة من دروسها، ينتظر نقلها الى مناطق اخرى من الاقليم او العالم، و يمكن ان نتوقع و في ظل النهج و الاستراتيجية العامة باعادة تشكيل المنطقة، ان تكون الساحة القادمة هنا في افريقيا على امتداد دول الساحل و الصحراء، تركيزاً على دول (تشاد، او النيجر، او غيرهما في المنطقة) كنماذج لدول مركزية ضعيفة وذات وفرة في الموارد، او قد تكون الساحة التالية هي اقليم القرن الإفريقي خاصة (إثيوبيا و امتداداتها ) كحالات نزاع داخلي محتملة، اما الاحتمال الاخير فهو دول الخليج في سيناريوهات تمرد داخلي مستقبلي.

إن الحرب في السودان يجب ألا تُقرأ فقط من زاوية محلية أو خلافات داخلية، بل باعتبارها جزءاً من مشهد إقليمي معقد، تُختبر فيه أدوات السيطرة والتحكم عن بعد، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم السيادة والدولة والجيوش. ومع كل يوم يمر، تتأكد الحقيقة المرّة، أن السودان، أرضًا وشعبًا، قد تحوّل إلى ساحة اختبار مفتوحة، لحرب من حروب الجيل الخامس، عنوانها ( تفكيك الدولة من الداخل، عبر أدوات محلية وأجندات خارجية). إن ما يجري في السودان ( إذا اعتبرناه معملًا ميدانيًا لحرب من الجيل الخامس)، لا ينظر إليه فقط كحربٍ على السلطة المركزية، بل هو حربٌ على مفهوم الدولة نفسها، وعلى وعي الشعوب، وهويتها، واقتصادها، ووحدتها النفسية والاجتماعية. و يظل الهدف ليس الانتصار العسكري المباشر، بل إنتاج نموذج قابل لإعادة التكرار في دول أخرى، بحسب الحاجة و وفق مقاييس الرسم المناسبة.

الاحد 29 يونيو 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!