
(٣ من ٤)
ليست كل “سردية استقلال” تنجح بالضرورة في ان تتحول إلى أساس دائم للديمقراطية والنهضة. فهناك الكثير من شعوب العالم الثالث تفككت سردياتها الوطنية واضمحلت فجر الاستقلال، مثلما كان من أمر سردية السودان. فلم تؤسس لمدنية صلبة، أو ترسي ديمقراطية مستقرة، أو تؤذن بانطلاق اقتصادي ناجح. غير ان عبقرية الشعب وكاريزما قيادته تتجلى حين تبلى السردية الوطنية. فيتعهدونها بالتجديد ويرفدونها بالمضامين الجامعة ويدفعون بها وهي أكثر قدرة على أن تضحي أساسا للتعاون بين الجموع البشرية المختلفة للأمة. وقد حدث ذلك في غانا.
في مستهلها، كانت سردية الاستقلال الغاني بقيادة كوامي نكرومامن أكثر سرديات الاستقلال اشراقا في افريقيا. لم تكن استقلالا عن بريطانيا فحسب، بل كانت مشروعا لوحدة القارة، والنهضة الافريقية، وبناء الاشتراكية الافريقية. غير أنها لم تقدم طرحاً ناضجاً يجعل من التنوع قوة ومن التعدد ثراء. وإنما كان مشروعا مبتسرا متعجلا شعاره الوحدة السياسية الفورية التي لا تعبأ بالحدود وتلغي كل الفوارق كونها جميعا من مخلفات المستعمر. وسرعان ما تحولت أحلام التحرر الى كوابيس من الاستبداد والاضطراب. رأى نكروما نفسه زعيما لأفريقيا كلها. وبنى لنفسه صورة الزعيم المفكر المقاتل، “الاوساقيفو” بلغة الأكان. وانشغل عن بناء بلاده بكتابة الخطب الملتهبة حول الوحدة الأفريقية. ومن عجبٍ، صارت له بسبب ذلك هالة القديسين. بل ظن انه جاز له ألا يُري الغانيين والأفارقة الا ما يرى، فهو ما يهديهم الا سبيل الرشاد. تدريجيا فقد نكروما الاتصال بالواقع الغاني. حوّل بلاده الى نظام الحزب الواحد وجعل من نفسه رئيسا مدى الحياة. ثم دخل في صراعات مع جيرانه وكبار القادة الافارقة متهما إياهم بالعمالة للغرب. وبسبب الاستبداد السياسي والفشل الاقتصادي فقد الاستقلال بريقه عند الجماهير الغانية، اذ لم يعد مرادفاً للحرية أو التنمية التي كانت ترتجى. ونتج عن ذلك فقدان الثقة بين الجماهير والنخبة. وتآكل الأساس الرمزي الذي وحّد الغانيين أول الاستقلال. فتمت الإطاحة بنكروما في انقلاب، تلته سلسلة من الانقلابات (١٩٦٦-١٩٨١) ودوامة من الفشل الاقتصادي فاقمت منها ضغوط البنك الدولي وصندوق النقد. بل تحول نكروما نفسه إلى رمز منقَسم عليه بين أنصار ومعارضين. وهكذا اضمحلت سردية الاستقلال، وفقدت سحرها، ومضامينها، ورمزها، وصارت نسيا منسيا.
غير ان الغانيين قد نجحوا من بعد في بعث تلك السردية من جديد كسردية وطنية جامعة. حدث ذلك في تسعينيات القرن الماضي. اذ تصاعد الحراك المدني وتولى جيري رولينغز الحكم عام ١٩٨١. جاء رولينغز للسلطة كقائد عسكري، بل كثوري ماركسي. لكنه استشعر بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٩١، ان الأفضل لغانا ليس الجري وراء سراب النموذج الشيوعي المنهار، وانما العودة لسردية الاستقلال وإلباسها ثوبا ديمقراطيا. فتحول رولينغز لقائد انتقالي يقود البلاد نحو الديمقراطية. فصاغ دستورا جديدا في العام ١٩٩٢، متضمنا الحقوق الأساسية والانتخابات التعددية وفصل السلطات. وعرضه على الشعب في استفتاء. ثم قدم رولينغزالجمهورية الرابعة كولادة جديدة للأمة الغانية. أو قل صيغة لتجديد سردية الاستقلال على نحو مصحح. فتمت استعادة إرث نكرومادون شخصنته. اذ أعيد تقديمه، كونه صاحب رؤية التحرر الوطني والنهضة الافريقية، بصفة “أب الأمة” وليس كحاكم مستبد. وصارت رمزيته – بعد تجاوز صراعات الماضي – جزءاً من خطاب وطني مشترك يشمل حتى خصومه السابقين. وصاحَب ذلك كله انعطاف حاد وناجح من الاقتصاد الاشتراكي الى اقتصاد السوق. ومع انتخابات ١٩٩٢ و١٩٩٦ بدأت الممارسة الديمقراطية تتجذر في غانا. وفي العام ٢٠٠١ جرت أول عملية انتقال سلمي للسلطة بين حزبين مختلفين، حيث سلم جيري رولينغز السلطة لخصمه السياسي جون كوفور، فأعطت تلك الخطوة سردية غانا الديمقراطية مصداقيتها.
لماذا نجحت غانا في بعث سردية الاستقلال المحطمة؟ السبب الأول هو ان الشعب الغاني قد سئم الانقلابات وضاق ذرعا بالفاقة وتخلّقلديه استعداد جماعي لدخول مرحلة جديدة. السبب الثاني هو انه تمت صياغة الخطاب الدستوري الجديد في العام ١٩٩٢ بلغة جامعة استبدلت الاستبداد بالديمقراطية وتجاوزت مرارات الماضي ولم تقص جهة أو قبيلة. والسبب الثالث هو الأداء المؤسسي الجيد نسبيا. اذ حققت غانا استقرارا اقتصاديا وسياسيا مقارنة بجيرانها عزز الثقة في مسيرتها الجديدة. والسبب الرابع هو دعم الغرب والولايات المتحدة لهذا التحول الذي تصادف أن حدث في عهد كلينتون – أيام كانت أمريكا مهتمةً ببناء الديمقراطيات حول العالم. زار كلينتون غانا في مارس ١٩٩٨ جاعلا منها المحطة الأولى في جولته الافريقية. وألقى فيها خطابا شهيرا في ساحة الاستقلال أمام مئات الآلاف، جاعلا من أكرا منصة لمخاطبة أفريقيا كلها. وربما يكون الدرس المستفاد من تجربة غانا هو انه يمكن للامة التي فقدت مشروعها الجامع وتآكلت سردية الاستقلال لديها، ان تلتقط أنفاسها من جديد وتعمد الى ذات السردية الجامعة التي حققت الاستقلال فتصلح ما فسد منها وتبني عليها نظاما دستوريا يمهد لاستقرار مستدام، وديمقراطية ناجحة، ونهضة اقتصادية كبرى.
في السودان، وفي وضع لا يختلف كثيرا عما جرى لسردية غانا الوطنية، فانه بعد الاستقلال بأقل من ثلاثة أعوام اعتدت النخبة السودانية على أحد أهم مضامين سردية الاستقلال، وهو مدنية الدولة وديمقراطيتها. فطلبت من العسكريين استلام السلطة في تحرك غير دستوري نتج عنه انقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨. وتم استغلال السخط الشعبي على الأحزاب لتوفير غطاء للانقلاب هو “ان الأحزاب اختلفت، والديمقراطية فشلت، ومن ثم يؤول الامر للجيش”. وفقدت سردية الاستقلال، وما تتضمنه من مدنية الدولة، جاذبيتها لدى الجيل الذي حقق الاستقلال نفسه. وأطلت برأسها “سردية بديلة”، هي سردية “الجيش الحامي”. وهي سردية تُقدّم فيها السلطة العسكرية المركزية كمرجعية بديلة عن الديمقراطية وعن العقد الاجتماعي المدني. وقد تكررت هذه السردية بعد ذلك لثلاث مرات، متخذة في كل مرة ثوبا جديدا. ففي مايو ١٩٦٩ اتخذت هذه السردية البديلة لبوس “الجيش الحامي/الثورة المخلّصة”. وكانت تلك الثورة اشتراكية تارة، وقومية تارة، وإسلامية تارة أخرى. وفي يونيو ١٩٨٩ التحفت ثوب الثورة الإسلامية. فكانت سردية “الجيش الحامي/الثورة الإسلامية”. وهي السردية التي قدمت اطروحة لإعادة صياغة الشخصية السودانية وإعادة بناء الدولة على أساس إسلامي. وبين هاتين السرديتين كانت سردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي”. وهي السردية التي شهدناها على يدي المشير عبد الرحمن سوار الدهب في أبريل ١٩٨٥، ثم هي تكررت لاحقا على يدي الفريق أول عبد الفتاح البرهان اعتبارا من أكتوبر ٢٠٢١. وهي سردية أمر واقع أو قل سردية “مبدأ الضرورة”. فهي لا تطرح بديلا كاملا لسردية الاستقلال كما هو الحال مع سرديتي مايو والإنقاذ، وانما تكتفي بطرح جزئي مداره كيفية تحقيق الانتقال الديمقراطي. ولئن نجحت سردية سوار الدهب في تحقيق الانتقال بعد ان اختزلته في الانتقال الميكانيكي للسلطة عبر الانتخابات، فانه لم يئن الأوان بعد للحكم على نجاح سردية البرهان في تحقيق الانتقال بأي شكل من الأشكال. هكذا أنقلب العسكريون لخمس مرات على سردية الاستقلال. هذا ما كان من أمر العسكريين. غير أن المدنيين لم يكونوا بأحسن حالا.
أتاحت ثورة أكتوبر ١٩٦٤ اول فرصة للمدنيين بعد الاستقلال للإدلاء بدلوهم بشأن السردية الوطنية. غير أن الطبيعة الحضرية والنخبوية لحراك أكتوبر، الذي قادته طبقة المتعلمين والمهنيين وتركّز في الخرطوم والمدن الرئيسية، كانت حاسمة في توصيف الثورة وتحديد اسهامها. فجاءت قصة انتصار الثورة اهزوجة حضرية حصريا ولم تُروَ كمِسدارٍ شعبي جامع. فالفلاح والبدوي والجنوبي، وان كانوا مبهورين بما قام به “أولاد المدارس”، ومولعين بأكتوبرياتوردي ومحمد الأمين، الا أنهم لم يكونوا شركاء فاعلين وانما مراقبين من على البعد. غير أن هذه الصفوية البادية للعيان لم تقنع الثوار أنه ليست لثورتهم مشروعية تفوق مشروعية تحقيق الاستقلال تؤهلها لتأسيس سردية بديلة. وأقبلت الثورة بكلياتها على مشروع “تأسيس” جديد للأمة والوطن عبرت عنه فكرة انتخاب “جمعية تأسيسية” مهمتها الوحيدة هي إيجاد دستور جديد، حضري نخبوي، كما عبر عن ذلك ابتداع دوائر الخريجين. الا انه سرعان ما تفككت نخبة ثورة أكتوبر وانقسمت على نفسها واستوعبتها المناورات السياسية واستغرقها الجري وراء المنافع الشخصية. فلم تكتمل صياغة تلك السردية البديلة.
اما حركة أبريل ١٩٨٥ التي أطاحت بنميري، بعد غضب شعبي نتيجة الإجراءات الاقتصادية والتقشفية التي أتبعها في آخر عهده، فلم يكن لديها متسع لا لرتق السردية القديمة او للإتيان بأخرى جديدة. فهي حركة لتحسين المعاش أكثر منها لصناعة سردية لمستقبل مشترك. كما ان فصائل المجتمع المدني والأحزاب التقليدية التي تصدرت المشهد كان قد عفا رسمها ولم يبق الا أسمها. فلم تستطع بناء شبكة وطنية مقنعة تنهض بتحدي بعث السردية القديمة او بناء سردية بديلة. وهكذا أفسح الجميع المجال طوعا أو كرها لسردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي” التي قدمها سوار الدهب والتي اكتفت بمجرد تحقيق نقل الحكم ميكانيكيا للمدنيين؛ ليتخذ الفشل الاقتصادي بعدها مسارا عموديا الى القاع.
لكن حراك ديسمبر ٢٠١٨، وخلافا لما كان عليه حراك أبريل ١٩٨٥، فقد كان همه انتاج سردية “تأسيسية”. وما كان يراد لها أن تكون بديلة عن سردية الإنقاذ فحسب، بل بديلة عن سردية الاستقلال أيضا. فما كانت “سردية الاستقلال” لتروق لمن خططوا لذلك الحراك. فاذا كان جوهر سردية الاستقلال هو انجاز الحكم المدني، بمعنى “غير العسكري”؛ فإن حداة ديسمبر ٢٠١٨ كانوا يسعون لتحقيق الحكم المدني، بمعنى “الليبرالي”. ومن ثم جُعل هتاف “حرية، سلام، وعدالة” شعارا للحراك لتأكيد هذا المغزى. واستُثنيضمناً من السردية البديلة الإسلاميون، والعسكريون، والمجتمع التقليدي بشقيه الأهلي والصوفي، ولفيف من الحركات المسلحة غير المتماهية مع المشروع الليبرالي. فلا هُم يشاركون في صياغة تلك السردية ولا تكون انشغالاتهم من بين مضامينها. وتعالت نغمة الحديث عن “التأسيس” وعن الزعيم “المؤسس”. وتبع ذلك السعي المحموم لتكريس حمدوك رمزا وطنيا تاريخيا يسمو فوق اعتبارات السياسة الزمنية تحت شعار “شكرا حمدوك”. وسعى القائمون بالأمر الى تحقيق “انتقالِ تأسيس” وليس انتقالا ميكانيكا. وكان السبيل الى ذلك هو اصدار إعلان دستوري جديد واتخاذ مسارات أخرى غير مسبوقة في انتقالات السودان.
وكما هو ديدن أي محاولة سردية اقصائية فهي انما تعتمد العنف وسيلة لتحقيق غاياتها. وقد تجسد ذلك في الإصرار على استدامة الاعتصام امام ميدان القيادة لأكثر من عام. وحيث ان العنف لابد من ان ينتج عنفا مضادا، فقد أنتج ذلك مجزرة ٣ يونيو ٢٠١٩. وبالرغم من ان ذلك الحدث الدموي المؤسف لم ينهِ حالة “الثورة” الا أنه أنهى التوازن السياسي بين أطرافها، والذي كان مطلوبا لبناء المؤسسات التي تنهض بالسردية الجديدة. ومثلما أتاح حراك أبريل المجال طوعا أو كرها لسردية سوار الدهب، انفسح المجال في أكتوبر ٢٠٢١ لسردية البرهان. فتكررت سردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي” من جديد. غير أن أصحاب السردية الليبرالية وحماتها الخارجيين لم يكونوا ليستسلموا أو يرضوا كما فعل ثوار أبريل. فأصروا اصرارا واستكبروا استكبارا. فجاءوا بالاتفاق الاطاري الذي هدفه استعادة السردية الليبرالية. ولما كانت تلك السردية تعني ما تعنيه بالنسبة للجيش، كانت الحرب. ولما كانت تلك السردية تعني ما تعنيه للإسلاميين وللمجتمع التقليدي وللحركات المسلحة، كانت النفرة الشعبية وكان الالتفاف حول الجيش. هبّت كل هذه الرياح في أشرعة سردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي” التي أطلقها البرهان منذ أكتوبر ٢٠٢١، والتي لاتزال تنداح فصولا.
غير أن خروج الجيش ومن ساندوه منتصرين من هذه الحرب، وهو المأمول، يفتح آفاقا ظلت مغلقة منذ فجر الاستقلال. وهي آفاقٌ أرحب من سردية “الجيش الحامي/الانتقال الديمقراطي”. فهي آفاق استعادة سردية الاستقلال. لكن لماذا الإصرار على سردية الاستقلال التي مضت عليها سنين عددا! ولماذا تستعاد سردية ما تآكلت الا لشح ما كان فيها من مضامين!
رأينا عند استعراضنا لقصة النجاح الهندي كيف أن احتشاد سردية الاستقلال بالمضامين يعد من أسباب استمراريتها وقدرتها على تحريك الأمة بأكملها في اتجاه المستقبل. غير أن ما تنطوي عليه سردية الاستقلال من رمزية ومثال، كونها لحظة اجماع وطني نادر يتأتى بسبب احتدام المواجهة مع عدو خارجي هو المستعمر الأجنبي، يجعلها قادرة أن تجمع الناس من جديد وتلهم أجيال المستقبل رغم افتقارها عند ميلادها للمضامين الكافية. فبسبب ظروف ميلادها فإن سردية الاستقلال تكتسب، في أي بلد، خصوصية لا تتوفر لأي سردية وطنية تليها. فللاستقلال رمزية اللحظة التاريخية غير القابلة للتشكيك في مصداقيتها. ومن ثم فإن السبب الأول الذي يدفعنا لإحيائها هو كونها السردية ذات الرمزية وذات القدرة الاستثنائية في تعبئة الشعب كله نحو المستقبل المشترك. والسبب الثاني، هو أنها سردية التأسيس الشرعية والأصيلة. فهي ليست سردية احتجاجية تدعي حق التأسيس وشرعيته ادعاءً، وإنما هي سردية تحمل مضمون التأسيس بالأصالة. فهي سردية السيادة، والعلم، والنشيد، والبرلمان، والدستور، والجيش الوطني. السردية المرتبطة مباشرة بفكرة تأسيس الدولة الوطنية. والسبب الثالث، هو أنها سردية جامعةوخالدة. وقدرتها على التوحيد هي سرها الأكبر. فهي الوحيدة القادرة على جمع الأضداد، ذلك أن السرديات الأخرى التي تأتي بعدها انما هي سرديات “ضدية” تنتج عن صراعات داخلية. فهي اما ضد العسكر، او ضد الطائفية، أو ضد الرجعية، او ضد الإسلاميين، او ضد المركز. وهو ما يجعلها إقصائية وانقسامية وغير قادرة على استنهاض الامة وتحريك وجدانها الجمعي صوب المستقبل. وفيما أن سردية الاستقلال خالدة، فإن ما عداها من سرديات غير خالدة. أنظر كيف نحتفل بذكرى الاستقلال سنويا – ونستشرف حاليا ذكراه السبعين رغم ظروف الحرب – بينما نسينا ثورة أكتوبر والتي مرت علينا ذكراها الحادية والستين قبل ثلاثة أيام ولم يلق لها أحد بالا. والسبب الرابع، هو أن المضامين التي تحتوي عليها سردية الاستقلال – على قلتها – هي المضامين الجوهرية والأكثر ملامسة للمخيال الوطني. فهي سردية استقلال القرار السيادي، وهي سردية رفض الهيمنة الأجنبية، وهي سردية البناء الوطني، وهي سردية الخروج من الفقر والتخلف، وهي سردية الحكم المدني الديمقراطي.
وبالرغم من هذه القابلية العجيبة لسردية الاستقلال، الا أن الشعوب لا تستدعي لحظة الاستقلال وتتمثلها ما لم تتعرض لما يبتليها ويمحِّصها، بل يصهرها ويصقلها. كأن تتوالى عليها الكوارث والنكبات وتشتد وطأتها. وأن تعركها الحرب فتطال المصائب والفظائع الكافة كما يحدث للسودانيين اليوم. وأن يتحرك الوجدان الجمعي ضد عدو خارجي كما هو حالنا مع الامارات. أو أن يبرز أمامها في أحلك اللحظات قائد ملهم يصيخون له السمع ويقفون خلفه. ذلك هو الذي يجعل الشعب يستعيد وضوح الصورة وتوقد الوجدان فيستدعي الشعور الطاغي الذي ساد عند الاستقلال. ويكون الشعب حينها قادرا على أن يتحرك كله ككتلة صماء نحو مستقبل مشترك.
لكن سردية الاستقلال لا تستعاد بحذافيرها، فقوتها تكمن في أنها قابلة للتجديد، أي لإعادة القراءة والتوظيف في ظروف جديدة. فالوجدان الشعبي اليوم قد انضجته التجارب التي استمدها من عثرات ما بعد الاستقلال، ولديه مخزون من تلك الدروس والعبر. ومن ثم تستعاد السردية في ثوب قشيب يُعلي ما اُجمع عليه فجر الاستقلال ويُزاد عليه ما تبلور لاحقا. مثل اللامركزية كوسيلة للعناية بالريف والاقرار بالتنوع، والأخذ بالنظام شبه الرئاسي الذي فيه رئيس للوزراء ينتخبه البرلمان الى جانب رئيس الجمهورية الذي ينتخب مباشرة. وحيث أنها سردية جامعة، فهي بطبيعتها منفتحة ومتسامحة تصلح اطارا لتجاوز المرارات والتعافي من الأحقاد. وبذلك تجعل الأولوية للتركيز على المستقبل واستيعاب طموحات الاجيال المقبلة. فسردية الاستقلال لا تتيح لنا الفرصة لنحتفي بالأزهري والمحجوب فحسب، بل برموز كل السرديات البديلة. كونها كانت بعضا من محاولات بناء الوطن. فتستعاد رمزية الزعماء السابقين دون شخصنتهم أو الأخذ بما كانوا يقولون، مما تجاوزنا بعضه أو تجاوزناه بالكلية. بدءا من عبود والى آخر من هناك. فذلك هو سبيل التعافي وتجاوز صراعات الماضي. وذلك مما لا تتيحه الا سردية الاستقلال الجامعة. وهو نهج إن رأيناه قد أتبع في غانا، فقد أخذت به جملة من الأمم.
ففي اندونيسيا اُتهم سوكارنو في حياته بالمغامرة وبأنه تسبب في فوضى اقتصادية وسياسية، وأطيح به بانقلاب بقيادة سوهارتو عام ١٩٦٥. اليوم يعتبر سوكارنو مؤسس الأمة الإندونيسية ومنح لقب “أب الاستقلال”. في شيلي اُتهم سلفادور أليندي بأنه عميل شيوعي وأطاح به بينوشيه في انقلاب في ١٩٧٣. بعد وفاته كُرّس رمزًا “للديمقراطية والكرامة اللاتينية”. في تنزانيا اُنتقد جوليوس نيريري بشدة في حياته بسبب تبنيه الاشتراكية الإفريقية (الأوجاما) التي أضعفت الاقتصاد، وبسبب استفراده بالحكم. اليوم ينظر اليه كقائد كاريزمي ملهم عمل لتحقيق وحدة أفريقيا، ويعتبر رمزا لنظافة اليد. فهو “المعلّم” وهو “ضمير إفريقيا الأخلاقي”. بل انظر الى ماو تسي تونغ الذي وُصف بأنه ديكتاتور دموي، وأنه خان مبادئ الماركسية حين جَعل من شخصه محور عبادةٍ مطلقة، وانه ارتكب أخطاء كارثية منها القفزة الكبرى الى الأمام والثورة الثقافية. وبعد أن أصدرت اللجنة المركزية للحزب قرارها التاريخي بشأنه في ١٩٨١ قائلة “إن منجزات ماو تسي تونغ تمثل ٧٠ ٪ من الصواب و٣٠ ٪ من الخطأ”، تم تكريسه كأيقونة وطنية. وصورته لا تزال على بوابة ميدان تيان آن من، بل لا تزال على العملة. هكذا تتجاوز الشعوب مراراتها وخصوماتها، وتضمّد جراحاتها، وتشيد صروحها الوطنية. بل هكذا تستغل انتصاراتها الاستثنائية ولحظات توحدها الوجداني لتحقق التوافق الوطني وتبني سردياتها الجامعة.
والجيش هو من يقرر. فالسلطة كل السلطة في يد الجيش اليوم. فإذا اكتفى الجيش من قبل في عهد سوار الدهب بمجرد نقل السلطة ميكانيكياً لحكومة منتخبة، فإنما فعل ذلك لأن السلطة الكاملة لم تكن في يده. وكان معه فيها شركاء متشاكسون. ثم إن جيش سوار الدهب لم يكن قد خرج منتصرا من حرب طاحنة وحدت وجدان الأمة مثلما هو الحال مع جيش البرهان. بل حربٍ جعلت من احياء سردية الاستقلال – سردية التأسيس الأصيلة – أمرا ممكنا. اذ انفتح الباب المفضي لتجديدها بعد أن ظل مغلقا منذ فجر الاستقلال. ومن ثم بوسع الجيش اليوم أن يجعل من هذا الانتقال انتقالا تأسيسيا. فهل ينتهز الجيش الفرصة ويجدد سردية الاستقلال ويجعلها منطلقا لتأسيس جامع، ام يفوتها ويركن لسردية “الجيش الحامي/ الانتقال الديمقراطي” فتكون مدخلا للرباعية واجندتها الانقسامية! هذا المبحث هو غاية هذا المقال، وهو ما تخصص له حلقته الأخيرة.






السلام عليكم
اري ان اقرب نموذج تاريخيا يمكن ان يحتذي ومثال حي هو نموذج الامم التي توحدت بعد حرب ونجحت مسبرتها من بعد ذلك…بدأ بايجاد صيغه للسلام ومن ثم اختيار النظام البديل للحكم…فالناس من صلب ادم واحد يفكرون ويرضون بنفس الطرق..العامل المهم والذي اثر كثيرا هو الانترنيت وعليه وجب وضعه كمؤثر اساسي.