
في قلب كل مجتمع نابض تكمن طاقات حية، هي المحرك الأساسي للتطور، والوقود الذي يدفع عجلة التغيير. هذه الطاقات تتجسد في العقول المفكرة، والأيدي العاملة، والأرواح الطموحة التي تسعى إلى الأفضل. لكن حين تُقيد هذه الطاقات، وتُجمد في قوالب من الإهمال أو التهميش أو القمع، يتحول المجتمع من كيان حي إلى كتلة راكدة، ومن جمهور فاعل إلى جماهير قطيعية لا تملك من أمرها شيئاً.
تجميد الطاقات الحية لا يحدث فجأة، بل هو عملية تدريجية تتسلل إلى القطاعات كافة. في التعليم، يُحاصر الإبداع بمنهجيات تقليدية لا تواكب العصر، فتُقتل روح المبادرة في نفوس الطلاب. في الاقتصاد، تُغلق أبواب الفرص أمام الشباب، ويُستبدل الاستثمار في العقول بالاعتماد على الخارج. في الإعلام، يُوجه الخطاب نحو التلقين لا التنوير، فتُصاغ الرسائل لتُطاع لا لتُناقش. وفي السياسة، يُقصى صوت المواطن، ويُستبدل بالحشد والتجييش، فتُصبح المشاركة مجرد حضور لا تأثير.
هذه الممارسات تخلق بيئة خصبة لنظرية تحويل المجتمعات إلى قطعان. وهي نظرية لا تعتمد على القوة المباشرة، بل على الترويض التدريجي. يُدرب الفرد على الطاعة، ويُجرد من حسه النقدي، ويُغرق في تفاصيل يومية تافهة تُبعده عن التفكير في القضايا الكبرى. يُغذى الخطاب العام بالخوف من التغيير، ويُربط الاستقرار بالجمود، فتُصبح الجماهير مستعدة لتقبل أي واقع، مهما كان مجحفاً، طالما أنه لا يهدد “النظام”.
في هذا السياق، يُعد الشباب أكثر الفئات تضرراً. فهم يمثلون جوهر الطاقات الحية، وعندما يُحرمون من فرص التعبير والمشاركة، يتحولون إلى طاقات مكبوتة، أو إلى مهاجرين يبحثون عن فضاء أرحب. هجرة الشباب ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي نزيف مستمر في جسد الوطن. الأسباب متعددة: انسداد الأفق، غياب العدالة، ضعف المؤسسات، وانعدام الثقة في المستقبل. والخلل الذي يتبع هذه الهجرة لا يقتصر على نقص في الأيدي العاملة، بل يمتد إلى فقدان الرؤية، وانهيار الحلم الجماعي، وتآكل الهوية الوطنية.
ولا تقتصر الهجرة على الشباب فحسب، بل تشمل أيضاً أصحاب الاختصاصات الدقيقة، من أطباء ومهندسين وأكاديميين. هؤلاء لا يهاجرون فقط بحثاً عن دخل أفضل، بل هرباً من بيئة لا تقدر علمهم، ولا توفر لهم أدوات العمل، ولا تحترم كرامتهم المهنية. والأثر الذي يتبع هذه الهجرة كارثي: انهيار في الخدمات، تراجع في جودة الحياة، وتفكك في البنية المعرفية للمجتمع. فحين يغيب الطبيب، ينهار النظام الصحي، وحين يغيب المهندس، تتعطل مشاريع التنمية، وحين يغيب الأكاديمي، يُفرغ التعليم من مضمونه.
إن تحويل الجماهير إلى جماهير قطيعية لا يحدث إلا حين يُفقد الإنسان إحساسه بالقيمة، ويُجرد من أدوات الفعل، ويُحاصر في دائرة من العجز والتبعية. والمجتمع السوداني، بما يملكه من تاريخ نضالي وثقافة غنية، لا يستحق أن يُختزل في هذا النموذج. بل يحتاج إلى ثورة في المفاهيم، تُعيد الاعتبار للطاقات الحية، وتُحررها من القيود، وتُعيد بناء الثقة بين الفرد والمؤسسات.
الطريق إلى ذلك يبدأ بالاعتراف بأن المشكلة ليست في الأفراد، بل في المنظومات التي تُقيدهم. ويستمر بإصلاح التعليم ليُصبح أداة للتحرر لا للتلقين، وبفتح المجال أمام الشباب للمشاركة الفاعلة، وبإعادة الاعتبار لأصحاب الكفاءات، وببناء إعلام يُنير العقول لا يُخدرها. حينها فقط، يُمكن أن يتحول الجمهور من قطيع إلى مجتمع، ومن متلقٍ إلى فاعل، ومن تابع إلى قائد.
إن الرأي العام السوداني اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستسلم لواقع التجميد والتقييد، أو أن ينهض لاستعادة طاقاته الحية، وبناء مجتمع يليق بتاريخه وطموحاته. والاختيار، كما كان دائماً، في يدنا نحن كشعب سوداني وقيادة .
٨ سبتمبر ٢٠٢٥م