تقاطعات الداخل والخارج: أي مستقبل للحل السوداني في ظل ضغوط الرباعية!؟

جملة من التحولات في سجال المخاض السوداني علي خلفيات متعددة لكنها تلتقي في مخاطبة الأزمة وآفاق الحل كل حسب رؤيته. حيث يشهد السودان لحظة مصيرية فارقة تتقاطع فيها خطوط السياسة الإقليمية والدولية مع جهود الداخل الذي يسعى لالتقاط أنفاسه، وسط حرب ممتدة أنهكت الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء. فبين إرهاصات التحركات الدولية الأخيرة التي تقودها الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات)، وزيارة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة، واجتماع مجلس الأمن والدفاع ببورتسودان، ودعوة الحكومة إلى حوار وطني سياسي لا يستثني أحدًا إلا ارباب الحرب ، وبين لقاءات مسعد بولس مع المسؤولين السعوديين، يبدو أن ثمة مشهد يتكوّن بصمت نحو صياغة توازن جديد بين الداخل والخارج.، لكن الأفق حوله تلفه العديد من التكهنات .
١/ ضغوط الرباعية وإعادة ترتيب أوراق التسوية
تسعى الرباعية التي اجهز عليها البرهان بمحددات من عطلة، تسعى منذ أسابيع إلى تحريك مسار الحل السياسي والتسوية عبر قنوات مزدوجة، تجمع بين الضغوط الميدانية والدبلوماسية. فواشنطن تعمل على تثبيت وقفٍ لإطلاق النار يمهّد لتفاهم سياسي أوسع يمكن من فتح المسار الإنساني. بينما تراهن الرياض والقاهرة على إعادة ضبط التوازن الإقليمي بما يضمن حلاً لا يُقصي المؤسسة العسكرية ولا يُمكّن مليشيا قوات الدعم السريع من تثبيت واقع الأمر الواقع الذي تريد فرضه بالمسيرات.
لكن الرباعية نفسها تواجه أزمة ثقة داخل السودان، بوجود طرف عدو أصيل في إشعال وتدوير الحرب داخلها ، لذا يُنظر إليها باعتبارها طرف غير نزيه وصاحبة مصلحة في إدارة الأزمة أكثر من إنهائها، خصوصاً في ظل تباين مواقفها من دعم الأطراف التي تغذي الحرب، وتباين أولوياتها بين الأمن الإقليمي والمصالح الاقتصادية ومصادرة الحق السوداني والواقع الميداني على الارض بشقيه العسكري والمدني.
٢/ زيارة البرهان إلى مصر… عودة إلى البوابة الشمالية
زيارة الرئيس البرهان إلى القاهرة ليوم واحد جاءت في توقيت حساس، إذ تزامنت مع تزايد النشاط الدولي حول ملف السودان، ومع تحركات مصرية حثيثة لإعادة صياغة مقاربة إقليمية للحرب، تريد مصر الجار الأقرب والأكثر موثوقية توجيه بوصلة المقاربة لخصوصية علاقتها بالسودان وتلازمها الحدودي والامني .
تُقرأ الزيارة باعتبارها محاولة لفتح قناة دعم سياسي وأمني مع مصر، وربما التفاهم حول شكل التسوية المقبلة، خاصة أن القاهرة تخشى من أي مخرجات تقلّص نفوذها في ملف النيل والبحر الأحمر، أو تمنح الدعم السريع شرعية سياسية الي غيرها من التبعات التي تتكشف.
لكنها أيضًا رسالة بأن القيادة السودانية تبحث عن مظلة عربية موازية للضغوط الغربية، في محاولة لإحداث توازن في معادلة الحل وسبل استدامته بترجيح خيارات الداخل المسنودة إقليمياً .
٣/ مجلس الأمن والدفاع والدعوة لحوار لا يستثني أحدًا
اجتماع مجلس الأمن والدفاع الأخير بعيد عودة البرهان ، وما تبعه من تصريحات رسمية عن الانفتاح على حوار سياسي شامل، يمثل تحوّلًا في الخطاب الرسمي للدولة من لغة المواجهة العسكرية إلى لغة التسوية الوطنية.أبرز اهمية الحراك الداخلي مقابل الخيارات المطروحة.
فالحرب التي تجاوزت عامها الثاني خلّفت تآكلًا في البنية الأمنية والاقتصادية، وأثبتت أن الحسم العسكري ممكنا لكن البعض يراه مكلفا ولم يعد خيارًا واقعيًا بما ترسله المسيرات من اشارات. ومن ثمّ فإن الدعوة إلى حوار لا يستثني أحدًا تأتي كمحاولة لتقديم بديل وطني للحلول المفروضة من الخارج، أو تلك التي تُدار من غرف الرباعية والراعي لغاياتهم.
إلا أن نجاح هذا الحوار يظل رهينًا بتحقيق الثقة السياسية داخليا ، وإعادة بناء الجسور مع القوى المدنية والفاعلين الاجتماعيين، بعيدًا عن المحاصصات والاصطفافات السابقة، لاجل خيارات وطنية تتجاوز الانتماءات الضيقة لذات الوطن الكبير وتقفز فوق المحاولات القديمة التي برهنت فشلها.
٤/ لقاءات مسعد بولس بالسعوديين… تحضير أم تهيئة؟
اللقاءات المكثفة التي يجريها المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس مع الرياض في روما تحمل دلالات متعدّدة؛ فهي تأتي في وقت يعيد فيه السعوديون تقييم أدوارهم ضمن الرباعية، ومحاولة بلورة رؤية أكثر اتزانًا تأخذ في الاعتبار الأمن الإقليمي خاصة البحر الأحمر والشأن الإنساني بحكم تداعياته.
ويُعتقد أن بولس يسعى إلى ضمان دور سعودي فاعل في تسهيل الحوار الوطني الداخلي، بما يجنّب السودان سيناريوهات فرض التسوية أو تقسيم مراكز القوى في ظل التباين الماثل.
٥/ بين الداخل والخارج… أي خيار للسودان؟
المشهد السوداني اليوم يتراوح بين ضغوط الخارج وسعي الداخل للتوازن بجهد إقليمي.
فإن استجاب السودان لضغوط الرباعية دون ضمانات وطنية، فإنه يخاطر بفقدان استقلال قراره السياسي لامحالة .وسط دعم متناهي للجيش من قبل الكل وتنامي الانتصارات العسكرية الميدانية والمدنية التي تريد الرباعية ايقافها بهكذا مناورات لصالح العدو .
أما إذا اختار إدارة حوار داخلي شامل وواقعي، لتعزيز مكامن القوة الداخلية ومشروعها الوطني ،بدمج المدنيين والعسكريين والمجتمع الأهلي والنازحين وكل التيار الوطني ، فإنه يؤسس لمنصة قوية وراسخة ينتظرها الجميع وبامكانها افشال المشروع الخارجي وتفويت الفرصة عليه .. طالما انه يملك الشرعية وسند ودعم نادر لتأسيس تسوية سودانية خالصة تستند إلى الشرعية الشعبية لا إلى الوصاية الخارجية.
خاتمة: معادلة الفرصة والتحدي
السودان يقف اليوم على مفترق طرق حقيقي:
فإما أن يلتقط اللحظة التاريخية ليعيد تعريف أولوياته الوطنية، ومضابط الحل عبر حوار يضع الإنسان والأمن والعدالة وجبر الضرر في قلب العملية السياسية،
وإما أن يترك زمام مبادرته للآخرين، فتتحول البلاد إلى ساحة تفاهمات دولية وإقليمية تُدار فيها مصالح الغير أكثر من مصالح أهلها. ولا احد بامكانه التكهن بالمآلات في سياق الهجمة المتوالية.
في كل الأحوال، فإن الرهان على وعي الداخل وتماسكه هو وحده ما يمكن أن يحوّل هذه الضغوط إلى فرصة حقيقية لبناء الدولة لا إعادة إنتاج الأزمة واجترار الفشل.
الخلاصة :
تبقى الحكمة لمن يعتبر في التقاط القفاز والوجهة ما بين نداء الداخل واستحقاقات الميدان التي ترجح كفة القوات المسلحة— وخيار السودان الرابح والراجح في اللحظة الحرجة امام تكاثف الضغط لخنق البلاد.
بين ضغوط الرباعية المتزايدة التي تتشكل بتنسيق إقليمي ودولي مفضوح ، واستدعاءات الداخل للحوار، يجد السودان نفسه أمام معادلة مصيرية تختبر قدرته على امتلاك زمام قراره وامنه الوطني، وسط كارثة إنسانية غير مسبوقة.
فالوضع الميداني في دارفور وكردفان والخرطوم يتدهور بوتيرة مروعة؛ وكثير من السكان باتوا في دائرة الجوع والنزوح والمرض وفقدان الخدمات الأساسية ، والمدن الكبرى تحولت إلى أشلاء عمرانية وأحزمة نزوح. وفي ظل انسداد الإغاثة الإنسانية، وآفاق الإعمار واعادة البناء وتنازع السيطرة على المعابر والموانئ والمطارات، بات المدني السوداني هو الخاسر الأكبر في صراع يتجاوز المحلي إلى الإقليمي والدولي، والكلفة متعاظمة، والتمرد ومن وراءه لا يملكون الان غير ورقة المسيرات ، التي ما اسهل السيطرة عليها وضبطها وتحييدها بالكامل .
في هذا السياق، تتجسد أمام السودان ثلاثة خيارات رئيسية:
1. الخيار الأول: الرضوخ لمنظور التسوية الخارجية
وهو خيار يسعى لوقف الحرب سريعًا عبر تسوية مجربة ترعاها الرباعية أو الأمم المتحدة، لكنه يحمل خطر تغييب الإرادة الوطنية، وإعادة إنتاج الأزمة في شكل جديد من المحاصصة أو النفوذ المتعدد الرؤوس.
هذا المسار قد يُنهي الحرب ميدانيًا، لكنه لا يؤسس لسلام دائم ولا يضمن وحدة البلاد وأمنها القومي، أو كرامة ضحاياها وحقهم في العدالة والتعويض.
2. الخيار الثاني: الانغلاق على الذات واستمرار الحرب
وهو خيار مكلف ومدمر، إذ يؤدي إلى استنزاف ما تبقى من الدولة، وتفكك البنية الوطنية، وتزايد نفوذ الفاعلين غير الرسميين من ميليشيات وأمراء وتجار حرب، مع انهيار اقتصادي وإنساني شامل معالمه في تهريب الذهب وانهيار قيمة الجنيه.
استمرار الحرب لا ينتج نصرًا، بل يفتح الباب لتدويل الصراع وتدوير المأساة.
3. الخيار الثالث: تسوية وطنية من الداخل وفق مشروع بملكية وطنية
وهو الخيار الأصعب لكنه الأكثر واقعية على المدى البعيد؛ حوار وطني شامل لا يُقصي أحدًا، إلا بسلطان القانون، يعيد الاعتبار للدولة والمجتمع المدني والنقابات والنساء والشباب والنازحين، ويضع أولوية قصوى لوقف الكارثة الإنسانية ، وتأمين الغذاء والدواء والعودة الطوعية.
هذا الخيار يتطلب شجاعة سياسية وتنازلات متبادلة من كل المكونات الداخلية، لكنه وحده كفيل بإعادة بناء الدولة من ركام الحرب، وباستعادة الثقة المفقودة بين السلطة والمواطن.
إن اللحظة الراهنة تضع السودان أمام اختبار وطني شامل:
إما أن يُدار مصيره بيد أبنائه وقيادته عبر حوار شجاع ومسؤول، أو أن يترك لغيره أن يرسم له مستقبله تحت لافتات التسوية والوصاية.
وبينما تتقاطع خطوط النار مع خطوط الدبلوماسية، يبقى صوت الضحايا والنازحين والجوعى والمرضى هو البوصلة الأخلاقية الملزمة، التي يجب أن تحدد مسار القرار السوداني القادم. والعالم يقف عاجزا او منصرفا على اقل تقدير تجاه ما يجري من مآسي ومعاناة في بعض ولايات دارفور وكردفان تتحملها الدولة وشعبها بالكامل والله ناصرنا بحوله وقوته!؟.
————
٢٦ اكتوبر ٢٠٢٥م



