
في خضم الجدل المتصاعد حول ترشيح السفير نور الدين ساتي لمنصب وزير الخارجية في الحكومة الانتقالية المرتقبة، وجدنا أنفسنا أمام معركة إعلامية و سياسية وأخلاقية تتجاوز اسم المرشح، لتلامس جوهر مفهوم الدولة، وهيبتها، وشروط الخدمة العامة في مرحلة ما بعد الحرب.
لقد تابع الجميع، مقالين بارزين أحدهما للأستاذ الطاهر ساتي الذي دافع بحماسة عن ترشيح السفير، والآخر للأستاذ عادل الباز الذي تبنّى موقفًا مشابهًا من منطلقات مبدئية، تدعو لإعمال التسامح وإعلاء معيار الكفاءة. غير أن المشكلة الحقيقية ليست في الدفاع أو الهجوم، بل في الخلط الخطير بين المواقف الشخصية، ومقتضيات الدولة، بين التعاطف مع شخصٍ، وتقييم مدى أهليته في سياق وطني حساس.
السفير نور الدين ساتي و الذي تقلب في المناصب و المواقع منذ ايام حكم النميري مروراً بسنين الانقاذ و ليس انتهاء بحكومة حمدوك ، و بصرف النظر عن كفاءته أو مسيرته المهنية، كان قد اتخذ موقفًا سياسيًا واضحًا و سافراً ضد قرارات الدولة في 25 أكتوبر 2021، وهي قرارات تم اتخاذها في سياق استثنائي لحماية وحدة البلاد بعد أن وصلت المرحلة الانتقالية إلى طريق مسدود. بل إن الرجل ذهب إلى أبعد من المعارضة، إذ نشط ضمن مجموعات في الخارج كانت تسعى لتقويض شرعية المؤسسات الوطنية، وشككت علنًا في القيادة السياسية والعسكرية الشرعية، وسعت لتدويل الصراع الداخلي. فهل يُعقل، في دولة تسعى إلى استعادة هيبتها وسيادتها، أن تُكافئ من تمرّد على سلطتها الشرعية، بواحد من أهم المناصب السيادية كوزارة الخارجية؟ إن هذا لا يستقيم مع أي منطق سياسي أو أخلاقي، بل يمثل سابقة خطيرة في مفهوم بناء الدولة بعد الحرب.
لا يهم كثيرًا إن كان السيد ساتي قد حمل السلاح أو لم يفعل، لكن مواقفه السياسية والإعلامية خلال الحرب الأخيرة كانت مائعة في أفضل الأحوال، ومشبوهة في أسوئِها. لم يُعرف عنه يومًا أنه أدان بشكل واضح وبلا مواربة جرائم مليشيا الدعم السريع، ولم يتخذ موقفًا صريحًا يدعم الدولة الوطنية في معركتها ضد التمرد المسلح، إن من يدعم التمرد على الدولة و مؤسساتها الرسمية الشرعية لا يُكافأ بوظيفة عامة.
في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السودان، لا مكان في مؤسسات الدولة لمن وقف بأي قدرٍ أو شكلٍ داعمًا أو متواطئًا أو متقبلاً للتمرد، سواء أكان ذلك بالدعم السياسي أو الإعلامي أو الصمت المريب. فالدولة، كما الجيوش تُبنى على الولاء والانتماء والانحياز الكامل للشرعية، لا على الحياد الزائف.
إن إصرار (البعض) على أن السيد ساتي هو “الأكفأ” لهذا المنصب، فيه إهانة ضمنية لنُخَب السودان الدبلوماسية والسياسية. السودان لا تنقصه الكفاءات، بل يزخر برجال ونساء مشهود لهم بالنزاهة والخبرة والانتماء للوطن في كل مراحله العصيبة. وإذا كانت معايير الاختيار تقوم فقط على “العلاقات الدولية” و”الشهادات” دون النظر إلى المواقف، فالأَوْلى أن نأتي بسفراء و وزراء أجانب يتحدثون العربية، إن السودان لم ينفد رصيده من الكفاءات التي تحمل الرؤية و المعرفة و الخبرة و تتصف بالنزاهة و الوطنية ، كما أن حواء السودان لم تعقر بعد.
من زاوية اخرى، نجد ان السيد السفير نور الدين ساتي في عمرٍ يجعل من دوره الاستشاري أليق من الدور التنفيذي، كما هو الحال في الدول ذات التقاليد المؤسسية المحترمة ، وهو في عُرف الدول الحديثة يعد من “كبار المستشارين”، لا من صانعي القرار التنفيذي. والوظيفة الوزارية في هذا التوقيت بالذات ليست منصبًا شرفيًا، بل موقع نضالٍ يوميٍ شاق، يتطلب طاقة متجددة، واتصالًا حيًا بالدولة والمجتمع، لا استدعاءً لماضٍ مثقل بالجدل والتقلبات. كل ذلك يطرح سؤالاً واقعياً (متى نركز في الوظيفة العامة على منح فرصة للجيل الجديد من الشباب خاصة ذوي التأهيل و الكفاءة؟ ) ، وهم كُثر، ينهضون بمؤسسات الدولة في الداخل والخارج، ويملكون من المؤهلات ما يُؤهّلهم للقيادة لا الانتظار.
كذلك، و في سياق الحديث عن قبول الآخر وعدم إقصاء أحد من المشاركة في الشأن العام، ينبغي أن نميز بدقة بين روح التسامح السياسي، وبين التواطؤ مع الإفلات من العقاب. فبعد ما شهده السودان في (حرب الكرامة) من فظائع موثقة ارتكبها العدو، لا بد أن يُفهم أن الحق العام لا تملكه النخب أو الأفراد، بل هو حق أصيل للشعب السوداني بأسره، وهو وحده من يملك الكلمة الفصل فيه عبر أدوات التعبير الجماعي وعلى رأسها الاستفتاء الشعبي. ثم يأتي بعد ذلك حق أسر الشهداء، والجرحى، والمصابين، وضحايا التهجير والاغتصاب والعنف والانتهاك، ممن لا يجوز القفز على آلامهم تحت دعاوى المصالحة أو التجاوز.
أما الحق الخاص، فمكانه الطبيعي أروقة المحاكم ودواوين العدالة، وفق القانون، وبموجب أُسس العدالة الانتقالية الحقة، التي لا تسقط الجرائم بالتقادم ولا تُغفل دور أيٍّ كان في ما جرى. فالعدالة لا تكتمل إلا حين يُحاسَب كل من شارك أو تواطأ أو سكت عن الجرائم، بغض النظر عن رتبته أو صفته أو تاريخه. فالسودان الجديد الذي ننشده، لا يُبنى على تصالح زائف، بل على حقيقة واضحة ومسؤولية لا تُجزأ وعدالة لا تُستثني أحدًا.
إن رئيس الوزراء كامل إدريس أمام اختبار مبكر في مسار حكومته، فإما أن يفتتح مرحلته بإشارات واضحة للقطيعة مع كل ما شوّه صورة الدولة، وإما أن يُعيد تدوير الأسماء والمجاملات والمغامرات و حتى الممارسات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. إن تعيين مثل هذا الشخص، في هذا الظرف، ليس من الحكمة في شيء، بل هو مغامرة سياسية غير محسوبة، قد تُفهم على أنها رضوخ لضغوط خارجية، أو صفقة ناعمة مع حلفاء الأمس.
السيد نور الدين ساتي، بغض النظر عن تقديرنا له كإنسان سوداني ، لا يُجسّد في لحظة ما بعد الحرب، النموذج الذي يجب أن تتبناه الدولة السودانية وهي تحاول أن تستعيد نفسها من تحت الرماد و نيران الحروب. فالمعيار اليوم ليس الكفاءة وحدها، بل الولاء الوطني، والنزاهة في المواقف، والوضوح في الانحياز إلى الدولة والشعب لا إلى الأجندات أو المليشيات. و إن كانت هناك أزمة فعلية، فهي ليست في “ساتي الوزير”، بل في “أزمة الاختيار في مرحلة بناء الدولة”، و هي مرحلة لا تقبل التردد، ولا تحتمل الخطأ.
الاثنين 30 يونيو 2025