.
تُصر مجموعة المجلس المركزي إصراراً، وتُلح إلحاحاً، أن تكون هي مَن يُحدد “قوى الثورة”، وتصر كذلك أن تكون “قوى الثورة” هي وحدها مَن يختار حكومة الكفاءات المستقلة التي ستدير الدولة خلال ما تبقى من الفترة الإنتقالية، وهذا الإصرار والإلحاح هو جوهر الأزمة السياسية القائمة الآن، فنحن أمام حالة مِن المغالطة تشبه حالة أيهما أولاً البيضة أم الدجاجة، قوى الثورة أم قوى الكفاح المسلح أم القوى الوطنية!!
وبعثة الأمم المتحدة لدعم الفترة الإنتقالية “يونيتامس” والمجموعة الغربية بقيادة “الترويكا” يميل هواهما إلى هوى مجموعة المجلس المركزي، دون سائر القوى الأخرى، فهما حين تتحدثان عن “قيادة مدنية للفترة الإنتقالية” إنما تقصدان مجموعة المجلس المركزي التي تدعي أن الشارع فوضها لتحكمه، دون أن ينتخبها، لكنهما تدركان أن مطالب مجموعة المجلس المركزي من العسير – إن لم نقل المستحيل – أن تتحقق، خاصة وأن المجموعة الغربية كانت شاهداً حيّاً ومشاركاً في مختلف أشكال الدعم الذي تلقته مجموعة “الكفاءات الوطنية” التي عُهد إليها بإدارة عامين كاملين من الفترة الإنتقالية، بلغ الدعم فيهما حتى مرحلة التكفل بمرتب رئيس الوزراء وكبار معاونيه وبالعملة الحرة وفق معيار موظفي الأمم المتحدة، لكن النتيجة النهائية جاءت على عكس ما أرادوا، الأمر الذي أتاح لقوى أخرى، لا يحبونها، أن تطل برأسها ساخرة مما يفعل الناشطون!!
وبين إصرار مجموعة المجلس المركزي على موقفها، وممالأة القوى الخارجية لها بتجميد خطوات تسهيل الحوار بين الأطراف المدنية، يتسرب وقتٌ ثمين من بين يدي السودانيين، وتتراجع أحلامهم إلى مستوى الطمع في البقاء على قيد الحياة، وتتعطل الدولة عن القيام بوظيفتها الطبيعية، وهي حفظ السلم والأمن الداخليين، وتأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية والعيش الكريم للمواطنين، وتصبح أوضاع البلاد مفتوحة على كل السيناريوهات بما في ذلك سيناريو الفوضى والحرب الأهلية الشاملة!!
لو كنّا في وضع طبيعي، وكان هؤلاء الذين يصرون على سياسة العزل والإقصاء، ويعطلون الحياة السياسية، يؤمنون حقاً بالقيم الديمقراطية، لكانوا اختاروا الانزواء خجلاً بعد تجربتهم البائسة، لا لكونهم ارتموا في أحضان الأجنبي وحسب، بل أيضاً بسبب ضعف الأداء والفشل الذريع في تحقيق الشعارات التي رفعوها والوعود التي قطعوها.
فحين آلت إليهم السلطة على طبقٍ من ذهب، وعدونا بأن خزائن البنك المركزي ستمتلئ وتفيض بالعملات الحرة، سواء من عائدات صادر الذهب والثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية أو من استعادة الأموال التي قالوا إن منسوبي النظام السابق هرّبوها إلى البنوك السويسرية والبريطانية والماليزية، وأننا سنودع حياة الشظف والمعاناة، ووعدونا بأننا سنضع خلفنا عهد الحروب والاقتتال، وأن السلام سيعم أرجاء الوطن كافة، ووعدونا بعهد العدالة الذي لن يشتكي فيه مواطن من جور السلطة عليه أو هضم حقوقه كإنسان.
لكن هذه الوعود كلها ذهبت أدراج الرياح، ورأينا محلها ما يخالفها في كل شئ، ولئن كان هذا مما توقعه كثيرون فإن المحيّر في أمر مجموعة المجلس المركزي هو إصرارها على أنه لو عادت بها الأيام لسلكت ذات المسلك، والمحيّر في أمر الآلية الثلاثية هو جمودها في انتظار تلقي الضوء الأخضر من كفلاء الفترة الإنتقالية!!
لا أعتقد أن من الحكمة أن تكتفي القوى الوطنية، التي مارست عليها مجموعة المجلس المركزي مختلف أشكال التمييز والتهميش والإقصاء، بدور المتفرج أو المنتقد للأوضاع العامة وإرسال عبارات اللوم بينما البلاد تتدحرج بسرعة إلى قاع الهاوية، بينما يمارس الآخرون ذات السياسات التي انتهجوها منذ أبريل ٢٠١٩م.
على القوى السياسية الوطنية، بمن في ذلك القوى الإسلامية، أن تثبت قدرتها على تعبئة الشارع بمناصريها وأن تضع القائمين على أمر البلاد أمام مسؤوليتهم التاريخية، والوقوف أمام أي مخطط لاحتكار السلطة لصالح فئة محدودة لم يفوضها الشعب لتحكمه وتحدد مصائره.