الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

بين فظائع الفاشر وتقارير الأمم المتحدة: امتحان الأخلاق والعدالة في وجه الحرب السودانية!؟

السفير د. معاوية التوم


منذ أن تحولت مدينة الفاشر إلى مرآة دامية تختزل مأساة الحرب السودانية، وهذا الغزو الوحشي على أيدي تتار العصر ورعاتهم. توالت التقارير الأممية والحقوقية لتوثّق الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع المتمردة بحق المدنيين، في المدينة ومحيطها، وفي عدد من مدن وأرياف كردفان. وما ترتب على ذلك من هجرة قسرية ومعاناة وتبعات إنسانية تنوء بحملها الجبال. هذه التقارير لم تعد محصورة في روايات الضحايا أو شهادات المراقبين الميدانيين، والفضائيات بل باتت موثقة باعترافات قادة المليشيا أنفسهم في أكثر من مناسبة، ما وضع المجتمع الدولي أمام حرج بالغ الي جانب مسؤولياته القانونية والأخلاقية بموجب الميثاق .
لكن، وبرغم هذا التراكم الموثق للانتهاكات، ظل الرد الأممي باهتاً ومتعثراً وغائباً ، وكأن الضمير الدولي في موات وبات ينتقي ضحاياه بحسب خرائط الجغرافيا والجنس والمصالح لا خرائط الإنسانية.
فبينما توغلت المليشيا في أعمال القتل الجماعي والإبادة العرقية والاغتصاب والتجويع القسري والنهب المنظم وتكرار هذه المشاهد الدامية، كانت بعثات الأمم المتحدة تكتفي ببيانات “القلق العميق” ونداءات “التهدئة والإدانة الخجولة ”، من دون أن تُسمّي الجناة أو تُطالب بمحاسبتهم بوضوح توجبه الأعراف والمواثيق الدولية،وكأن المنظومات والشبكات الدولية التي تخرج هذه التقارير تاتي من كوكب خارج فضاء ما يجري في غزة وأوكرانيا، والمأساة في السودان تمضي الي عامها الثالث ، كثالث أكبر أزمة دولية.
الحق الوطني وسيادة العدالة:
أمام هذا المشهد المثقل بالجرائم والخذلان والتواطؤات، جاء تحرك النيابة العامة السودانية خطوة في الاتجاه الصحيح، حين أعلنت فتح تحقيقات وطنية شاملة في الانتهاكات التي شهدتها دارفور وكردفان، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
إن تمسك النائب العام بهذا الحق الوطني القانوني للتحقيق في الجرائم الواقعة على أرض السودان حصربا ، يؤكد أن الدولة ما زالت قادرة على ممارسة سيادتها القضائية رغم الحرب، وأن العدالة الوطنية ليست ترفاً مؤجلاً بل واجباً لا يسقط بالتقادم، لتترك ايضا خذلان العدالة الدولية ازاء ما يجري وصمة عار أخرى.
وتكتسب هذه التحقيقات بعداً خاصاً في ظل إصرار المليشيا على التمويه بمسميات مضللة كالحديث عن “حكومة موازية” أو “إدارة مدنية” في المناطق التي تسيطر عليها، في محاولة لشرعنة احتلالها للأرض وتغطية جرائمها بحق المدنيين، بالحرق والدفن في مقابر جماعية لطمس معالمها، وهو ما لا يمكن قبوله في ضوء القانون الدولي الإنساني والجنائي، ولا في منطق الدولة الحديثة.
زيارة توم فليتشر… بين الأمل والحرج:
في هذا التوقيت الدقيق، جاءت زيارة وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية توم فليتشر إلى السودان ولقاؤه برئيس مجلس السيادة، لتكون الثانية لمسؤول أممي رفيع المستوى بعد زيارة مارتن غريفيث في مايو 2023، بعيد اندلاع الحرب. وكلاهما بريطاني ودولتهما هي حامل القلم ضد السودان ومصالحه في مجلس الامن، وشريك الرباعية الاولى، والخماسية الحالية ، وبلادنا لا تنسى آخر مشروع لها قضى عليه الفيتو الروسي كدليل دامغ على حلقة تامر التاج البريطاني والامعان في محاصرة السودان.
لكن الزيارة حملت في طياتها أكثر من دلالة، فهي تعبير عن اعتراف أممي متأخر بعمق الكارثة الإنسانية، وفي الوقت نفسه تضع المنظمة الدولية في موضع الحرج الفاجع ، لأنها لم تتحرك بالجدية المطلوبة حين كان بإمكانها الحد من المأساة قبل أن تتفاقم.وهي التي أصدرت القرار ٢٧٣٦ القاضي بفك الحصار عن الفاشر ، ولها مبعوث شخصى للامين العام للسودان ولكنها آليات أضحت للضغط السياسي وتمرير المشروعات الخارجية التي تنال من سيادة البلاد وأمنها ، وليست معنية بالضوائق والمعاناة الانسانية وايجاد الحلول العاجلة لها.
فمنذ أكثر من عام، كان الأمين العام للأمم المتحدة قد طرح مبادرة لوقف إطلاق النار، رحبت بها حكومة السودان حرصاً على حماية المدنيين، بينما رفضها التمرد المسلح المدعوم خارجياً. ذلك الرفض لم يُقابل حينها بأي موقف حازم من المنظمة، ما شجع المليشيا على التمادي في جرائمها، وترك الفاشر تواجه مصيرها وحدها بين حصار وتجويع ومجازر ممنهجة من واقع هذا الغزو الذي استخدم المسيرات والتقانة والغازات السامة.
الفاشر… جرح في ضمير العالم:
اليوم، وبعد ما يقارب العامين من المعاناة المتواصلة في الفاشر، تتكشّف للعالم فداحة ما جرى: مدينة منكوبة، ومئات الآلاف من المدنيين بين قتيل ومشرّد وجائع ومعتقل ومفقود ، ومستشفيات مدمرة، بلاء غطاء او دواء ومخيمات لجوء تتكدّس بالنازحين وسط عجز أممي واضح، وفضيحة إنسانية كونية.
كل هذا يجري على مرأى من مجلس الأمن ووكالات الأمم المتحدة التي لم تترجم بياناتها إلى فعل إنساني يليق بحجم الكارثة، حصدت أراوح اهل الفاشر بالتسييس والانتقائية ونفوذ المال وأجندات اللاعبين الكبار.
إن السودان، وهو يواجه هذا الواقع المأساوي القاسي، لا يطالب بأكثر من احترام سيادته وترابه وحرمات امته وحقهم في العدالة، وأن تُعامل الأمم المتحدة شعبه بما تمليه مواثيق حماية المدنيين وحقوق الإنسان، لا بما تقتضيه الحسابات السياسية أو الضغوط الإقليمية، والعدو الحقيقي يكشف عن ذاته وظلاماته كل صباح عبر أداته الوظيفية.
فالموقف الإنساني لا يُجزّأ، ومنظومة الأمم المتحدة لن تُستعاد ثقة الشعوب بها ما لم تُظهر العدل والاتساق بين خطابها الإنساني وممارستها الفعلية دون تمييز .
خاتمة:
يبقى الحرج الأممي الأكبر أن الفاشر لم تعد مجرد مدينة منكوبة، بل شاهد إدانة على عجز النظام الدولي عن حماية الإنسان حين يُسحق تحت أقدام المليشيات، ومبادرات الخزي والعار التي، تنسج كغطاء وصائي مرفوض يعقد الحلول ويفاقم المعاناة ويكافيء الجناة كما هي الرباعية.
وفي المقابل، فإن تمسك السودان بمسار العدالة والسيادة القانونية هو الرد الحقيقي على فوضى السلاح، ورسالة واضحة بأن لا سلام بلا محاسبة، ولا إنسانية بلا احترام لحق الحياة والكرامة. كما يتمسك بحقه الدستوري في دحر الأعداء، وإخراجهم الي حيث أتوا، وحسمهم ميدانيا لاعادة الامن والاستقرار بموجب التزاماته الدستورية والوطنية والأخلاقية تجاه شعبه، لان الموتى لا يأكلون يا سيد توم فليشر!؟.
…………….
١٢ نوفمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!