الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

بين الإنكار والتواطؤ.. حين تنظر الدولة في مرآة بياناتها

يمكن فهم السلوك السياسي لدولة الإمارات في التعامل مع الاتهامات الموجهة إليها بدعم مليشيا «الدعم السريع» من خلال مدخل علم النفس السياسي، وبالتحديد عبر مفهوم الإنكار الجماعي للدولة الذي استخدمه باحثون مثل جورج كليمان وأرنست بيكر في تحليل سلوك وحدات النسق السياسى عندما تواجه اتهامات أخلاقية لا يمكنها الاعتراف بها مباشرة. ففي مثل هذه الحالات، تُنتج الدولة خطابًا عامًا يُعيد صياغة الواقع رمزيًا ليحافظ على توازنها النفسي والسياسي في آنٍ واحد، ويحوّل الأزمة الأخلاقية إلى قضية تفسير أو سوء فهم، لا إلى جريمة أو مسؤولية.
من هذا المنظور، يصبح تحليل البيانات الرسمية والتصريحات الإماراتية الأخيرة حول السودان بمثابة مرآة تكشف كيف تنظر الدولة إلى ذاتها في لحظة اتهام علني نادر الحدة والاتساع — حيث تبدو الإمارات في موقع الفاعل الذي يُدين فعله، ويستنكر ما يُسهِم في وقوعه.

في الأول من نوفمبر ٢٠٢٥ أصدرت وزارة الخارجية الإماراتية بياناً يكرر العبارات المألوفة: “إدانة شديدة واستنكار عميق” للهجمات ضد المدنيين، و”انتهاك صارخ للقانون الدولي”. جاء البيان بعد أيام من سقوط الفاشر (٢٨ أكتوبر)، حيث وثقت منظمات دولية عمليات إعدام جماعي واغتصابات وحرق مخيمات النازحين. لكن البيان ليس الأول، ولن يكون الأخير، بل هو حلقة في سلسلة بيانات تتكرر مع كل دليل جديد يربط أبوظبي بالطرف نفسه الذي تُدين أفعاله.

توقيت لا يخلو من دلالات:

جاء البيان بعد نشر تقرير أممي في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٥ كشف عن أربعٍ وعشرين رحلة شحن جوي من الإمارات إلى تشاد وليبيا محمّلة بأسلحة وصلت إلى قوات الدعم السريع. بالتزامن، فرضت واشنطن في ١٥ يناير ٢٠٢٥ عقوبات على شركات إماراتية متهمة بتمويل محمد حمدان دقلو «حميدتي»، ورفع السودان في ١٤ مارس ٢٠٢٥ دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها أبوظبي بالتواطؤ في الإبادة الجماعية في دارفور. في هذا السياق، يتحول البيان إلى أداة دفاعية تهدف لفصل اسم الدولة عن الفعل، وإعادة تقديمها كوسيط سلام في المحافل الدولية.

نمط لغوي ثابت… وصمت مريب:

منذ اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣ أصدرت الإمارات أكثر من عشرة بيانات مماثلة، ففي أبريل ٢٠٢٥ أدانت “قصف مخيمات الفاشر”، وفي مايو ٢٠٢٥ استنكرت “الهجمات على بورسودان وكسلا”، وفي أغسطس ٢٠٢٥ رفضت “العنف ضد المدنيين في كردفان”. الصياغات تتبدل قليلاً، لكن الفعل يبقى واحداً: لا شيء يتغير على الأرض.
والأكثر لفتاً أن البيان، كسابقيه، أنه لم يذكر “الدعم السريع” ولا “حميدتي” ولا حتى كلمة “مليشيا”. هذا الصمت المتعمّد يُقرأ كتَبرئة ضمنية للطرف المسؤول عن مذبحة الفاشر، ومحاولة للابتعاد عن ربط اسم “الإمارات” بـ”الدعم السريع” في نتائج البحث على المحركات والحديث العام، و هو ما يدخل ضمن استراتيجيات إدارة السمعة الإلكترونية. بهذا المعنى تمارس الإمارات نوعاً من الإنكار التعويضي المزدوج عبر إنكار الفعل ميدانياً، وإنكاره لفظياً ببيانات تُدين دون تسمية.

تناقضات مكشوفة:

تدعو الإمارات إلى “محاسبة المرتكبين” لكنها ترفض التعاون مع لجنة تقصي الحقائق الدولية.
تتحدث عن “حماية المدنيين” بينما تهبط طائرات شحنها في مطارات الجوار محمّلة بأسلحة تُستخدم بعد أيام في قصف المدن نفسها التي تدين قصفها.
أما الذهب، وقود الحرب الاقتصادي، فيتدفق من مناجم دارفور إلى دبي، حيث تربط تقارير دولية تهريب أكثر من سبعين في المئة من إنتاج السودان من الذهب بالقنوات التي تمر عبر الإمارات، ما يدر مليارات الدولارات على مليشيا الدعم السريع.

اعتراف بلا توبة:

في منتدى المنامة يوم ٣ نوفمبر ٢٠٢٥ أقرّ المبعوث الإماراتي أنور قرقاش بأن «الجميع أخطأ بدعم الانقلاب العسكري عام ٢٠٢١». لكن هذا الاعتراف لم يتبعْه وقف للدعم العسكري، ولا إغلاق لقنوات تهريب الذهب، ولا اعتذار رمزي لضحايا الحرب. فما قيمة الاعتراف إن لم يتبعه تصحيح أو محاسبة؟

خاتمة:


بيان الأول من نوفمبر ٢٠٢٥ ليس أكثر من محاولة لغسل السمعة السياسية بعبارات دبلوماسية — وهذه المرة بلمسة رقمية. السودانيون لا يحتاجون كلمات مكررة، بل وقفاً فعلياً لتدفق السلاح والذهب، وتعاوناً حقيقياً مع التحقيقات الدولية. ما لم تُوقف الإمارات تمويل الحرب بيد، وتدينها بالأخرى، فستبقى بياناتها شاهداً على التواطؤ لا على البراءة.

اترك رد

error: Content is protected !!