الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

بيان الحكومة السودانية: صرخة في وجه التجاهل الدولي أمام ثالث أكبر كارثة إنسانية في العالم!؟

السفير د. معاوية التوم

في وقتٍ تتزايد فيه المآسي الإنسانية في السودان والمعاناة البشرية على خلفية هذه الحرب المفروضة عليه ارضا وشعبا ودولة منذ عامين ونصف ، تتصاعد الجرائم الميدانية في مدينة الفاشر ومدن دارفور الكبرى باستهداف متعمد من قبل المليشيا وداعميها الكثر ، أصدرت حكومة السودان بيانًا شديد اللهجة وجّه أصابع الاتهام إلى المجتمع الدولي، متهمةً إياه بالصمت المريب حيال ما وصفته بـ”جرائم التطهير العرقي والقتل على أسس قبلية” التي ترتكبها مليشيا آل دقلو بحق المدنيين العُزّل.
البيان، الذي صدر من بورتسودان العاصمة المؤقتة، بدا كأنه صرخة وطنية في وجه العالم الصامت، وعتب سياسي شديد اللهجة موجّه إلى المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بالشأن الإنساني والحقوقي وكذا الاقليمية، التي اكتفت بالمراقبة والتنديد الخجول أو الاكتفاء بالتصريحات الدبلوماسية الباهتة والجاني معلوم وجرائمه ماثلة للعيان والكارثة تتعاظم.
خلفية الحرب ومأساة الفاشر
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، ظلت مدينة الفاشر تمثل رمزًا للصمود المدني والعسكري ضد هجمات قوات مليشيا الدعم السريع المتمردة، قبل أن تتحول في الأشهر الأخيرة إلى مسرحٍ لمجازر مروّعة استهدفت المدنيين على خلفيات إثنية وقبلية، وسط انهيارٍ شبه كامل للخدمات الطبية والغذائية والإمدادات الإنسانية. بعد ما يئس التمرد من تحقيق أهداف الحرب وفقدان البوصلة.
وفي تطور خطير خلال الأسابيع الماضية، استخدمت المليشيا المسيرات الاستراتيجية عالية الكلفة المالية لقصف أحياء سكنية ومراكز إيواء ومسجد في الفاشر، ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين إلى أكثر من 200 شهيد خلال أقل من شهر، بحسب تقارير ميدانية موثوقة.
ويأتي ذلك في وقتٍ تتحدث فيه جميع البيانات والتوجهات الدولية عن “حماية المدنيين”، لكن دون أي أثر فعلي عملي أو تحرك ملموس لوقف القتل والاستهداف العشوائي. رغم البيان التي صدرت عن مجلس الامن وقرارته التي تدعو التمرد لفك الحصار عن الفاشر.
تُشير الوقائع إلى أن هذه الهجمات بالطائرات المسيّرة تمثل نقلة نوعية في أدوات الحرب، إذ لم تعد المواجهة محدودة بالسلاح الخفيف أو بالمعارك الأرضية، بل انتقلت إلى مستوى من التكنولوجيا العسكرية يفوق قدرات المتمردين الذاتية ويعكس دعمًا خارجيًا متطورًا، والدولة الراعية تحاول أن تلبس ثوب الإنسانية والتعاطف مع شعب السودان وهي تعمل حقيقة على قتلهم صباح مساء وتدمير منشآتهم وبنياتهم التحية، وفرض ارادتها ومداخلاتها في جلسات الساحات الدولية لاجل التمرد كما هو الحال في مجلس حقوق الانسان بجنيف من يومين .
عتب الحكومة ورسائلها المضمَرة
لغة البيان الحكومية لم تكن عفوية؛ فهي تحمل في طيّاتها مرارة سياسية وإنسانية. فالحكومة التي ما زالت تكافح لتثبيت أركان الدولة المدنية وتجاوز التحديات والآثار التي رتبتها الحرب ، بعد عامين ونصف من الحرب، تجد نفسها اليوم أمام أكبر اختبار أخلاقي للمجتمع الدولي يكشف عجز و زيف وتضليل الآليات الدولية في حماية المدنيين من فتك المسيرات . وهو امر ليس بالعسير على الرصد وتحديد وجهة انطلاقه ومن يقف وراءه.
وجاء في البيان أن ما يجري في الفاشر “يُشكّل تحديًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي ولقرارات مجلس الأمن”، في إشارة إلى عجز المنظومة الأممية عن حماية المدنيين أو ردع المعتدين وتصنيف جرائمهم.
كما أن استخدام مصطلح “مليشيا آل دقلو” لم يكن عرضيًا؛ بل يعكس توجهًا رسميًا لتوصيف قوات الدعم السريع ككيان عائلي متمرد، لا كقوة وطنية، تمهيدًا لملاحقة قياداته بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الوطني وأجهزة العدالة السودانية.

أزمة السودان: الكارثة الإنسانية الأكثر تجاهلًا
ورغم أن الحرب في السودان تُعد اليوم ثالث أكبر كارثة إنسانية في العالم بعد الحرب في أوكرانيا والمأساة الجارية في غزة، إلا أنها الأكثر تهميشًا من حيث الاهتمام الدولي والتفاعل الإنساني وحجم التعاطي والاستجابة.
فبينما تتصدر أزمات أخرى نشرات الأخبار وتُخصص لها قمم ومؤتمرات ودعم مالي ضخم، يعيش السودانيون تحت الحصار والنزوح والمجاعة في ظلّ صمتٍ دوليٍ مطبق، لا يوازي حجم الكارثة ولا يتسق مع مبادئ العدالة الإنسانية.
تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة ماسة إلى المساعدات، ومع ذلك لم تتجاوز الاستجابة الدولية سوى جزء يسير من التمويل المطلوب، في واحدة من أكثر حالات الإهمال الإنساني والأخلاقي فداحة في التاريخ المعاصر، من حيث الاستجابة واليات الاحتواء والمعالج كفاح مسار إنساني آمن او تشكيل ضغط على التمرد والدولة الراعية.
بين التجاهل الدولي ومسؤولية الضمير العالمي
من الواضح أن بيان الحكومة السودانية لم يكن مجرد توثيقٍ للغضب، بل محاولة لإيقاظ الضمير الإنساني العالمي بعد أكثر من عامين من التجاهل المقصود أو العجز الممنهج.
فهو يدق ناقوس الخطر ويذكّر المجتمع الدولي بأن استمرار التراخي لا يعني سوى المزيد من الدماء والانهيار الإنساني والسياسي في قلب إفريقيا.
ويرى مراقبون أن البيان قد يكون مقدمة لتحرك دبلوماسي وقانوني أكثر حدة، يشمل رفع ملفات موثقة لمجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب إطلاق حملة دولية جديدة تسعى لإعادة السودان إلى دائرة الاهتمام الأممي، واظهار الحقائق المجردة التي تسعى اطراف دولية حجبها لاجل التعمية لصالح دولة إقليمية هي أسّ البلاء والتآمر.
خاتمة
إن ما عبّرت عنه الحكومة السودانية في بيانها الأخير لا يمكن اعتباره مجرد موقف سياسي، بل هو نداء استغاثة وصرخة وطنية في وجه الاقليم والعالم المتفرج والخذلان الإنساني .
فحين تكون المأساة السودانية بهذا الحجم من الألم والدمار والحصار والأمراض والنزوح واللجوء، ويستمر التجاهل الدولي بهذا القدر من البرود، يصبح الصمت شريكًا في الجريمة.
لقد قال البيان ما لم يقله أحد: أن السودان اليوم لا يحتاج إلى التعاطف اللفظي والمجاملات الشكلية بالكلمات والتعبير عن القلق والمأساة في تفاقم يحصد الأبرياء، والجاني معرف ويوثق جرائمه بيده. فالسودان بحاجة الي ضمير عالمي إنساني مجرد من التسييس واللامبالاة ، بل ويدعو إلى وقفة ضمير حقيقية تُعيد للإنسان السوداني كرامته وحقه المشروع في الحياة الكريمة، واستحقاقاته بموجب الميثاق الدولي ومبادئه، وسط عالمٍ بات للأسف يفرّق بين الدماء وفق الجغرافيا والمصالح السياسية الضيقة وصراع الإرادات .ورغم كل هذا التجاهل والإهمال إلا ان ارادة الله الغالبة ، وإيمان هذا الشعب الصابر بقضيته العادلة وصموده وعزيمة قيادته العسكرية والمدنية قادرة علي تجاوز هذا الاختبار وتحقيق النصر بدحر التمرد وطرده من كل شبر وكسر جبروت داعميه وكتابة النصر بارادة سودانية مهما تكالبت الأسهم وأشتد الحصار والتآمر.
———-
١٢ اكتوبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!