الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

انبعاث روح الدولة المدنية في المحافل الدولية: خطاب كامل في الأمم المتحدة إشارة

محمد الحاج

في الخامس والعشرين من سبتمبر 2025، ألقى رئيس الوزراء السوداني خطابًا تاريخيًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حمل في طياته إشارات واضحة إلى انبعاث روح الدولة المدنية في السودان، وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة. الخطاب، الذي جاء في وقت بالغ الحساسية، لم يكن مجرد بيان دبلوماسي، بل كان إعلانًا صريحًا عن توجه جديد تتبناه الحكومة السودانية، مدعومًا بإرادة شعبية ومجتمعية واسعة، نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية مستقلة القرار.

استهل رئيس الوزراء خطابه بالتأكيد على أن السودان، رغم ما يمر به من أزمات، لا يزال متمسكًا بخيار الدولة المدنية، تنفيذًا لخارطة الطريق التي قدمها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، في يوليو 2023. هذه الخارطة، التي حظيت بموافقة قوى سياسية ومجتمعية فاعلة، تمثل نقطة تحول في مسار الانتقال الديمقراطي، حيث وضعت أسسًا واضحة لقيام دولة مدنية تستند إلى إرادة الشعب السوداني، بعيدًا عن أي اشتراطات أو إملاءات خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية.

الخطاب لم يكتف بالإشارة إلى النوايا، بل تناول بوضوح الالتزامات العملية التي شرعت الحكومة السودانية في تنفيذها، بدعم من المجتمع السوداني قواه السياسية. فقد شدد رئيس الوزراء على أهمية تهيئة البيئة السياسية والأمنية وقيامه بتشكيل حكومة مدنية “حكومة الأمل”، وهي قادرة على قيادة المرحلة الانتقالية و اخراج السودان إلي بر الأمان. وفي هذا السياق، انتقد بشدة العقوبات الأحادية التي تفرضها بعض القوى الكبرى، معتبرًا أنها لا تخدم عملية التحول الديمقراطي، بل تزيد من تعقيد المشهد السياسي وتطيل أمد معاناة الشعب السوداني، الذي يدفع ثمنًا باهظًا نتيجة هذه السياسات.

وفي محور بالغ الأهمية، تناول رئيس الوزراء قضية الحرب الدائرة في البلاد، مؤكدًا التزام الحكومة السودانية بوقفها فور انسحاب مليشيا الدعم السريع المتمردة من المناطق التي تسيطر عليها، إلى مواقع يتم تحديدها من قبل الجيش السوداني، تنفيذًا لاتفاقية جدة التي تم توقيعها في نوفمبر 2023. هذا الالتزام، بحسب الخطاب، يعكس رغبة حقيقية في إنهاء الصراع المسلح وفتح الطريق أمام تسوية سياسية شاملة، تضمن وحدة السودان وسلامة أراضيه.

لكن الخطاب لم يغفل الإشارة إلى التحديات التي تواجه هذا المسار، وعلى رأسها عدم قدرة مجلس الأمن والسلم الدولي على فرض قراراته على مليشيا الدعم السريع. فقد أشار رئيس الوزراء إلى القرار رقم 2035 الصادر عن المجلس في أغسطس 2024، والذي طالب بفك الحصار عن مدينة الفاشر والمناطق المحيطة بها، دون أن يجد طريقه إلى التنفيذ. هذا الفشل، كما وصفه، يكشف عن استخفاف المليشيا بالقرارات الدولية، واستمرارها في ارتكاب جرائم حرب، من بينها استخدام سلاح التجويع والتصفية العرقية، خاصة في إقليم دارفور، حيث تعرضت مجموعات المساليت وسحنات أخرى لانتهاكات ممنهجة شملت التصفية العرقية منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، بالإضافة إلى مناطق أخرى في الإقليم الأوسط في السودان.

وفي سياق أكثر خطورة، أشار رئيس الوزراء إلى وجود تدخلات خارجية تهدف إلى تفتيت الدولة السودانية وتغيير ديموغرافيتها، من خلال إدخال البلاد في حالة من الفوضى الممنهجة، واستخدام مليشيا الدعم السريع كأداة لتنفيذ هذا المخطط. هذه التدخلات، بحسب الخطاب، تسعى للسيطرة على موارد وثروات السودان، وحرمان شعبه من حقه في تقرير مصيره وبناء دولته على أسس وطنية خالصة.

الرسالة الأخيرة في الخطاب كانت بمثابة تعهد رسمي أمام المجتمع الدولي، بأن السودان ماضٍ في طريق الديمقراطية، وفقًا لما جاء في خارطة الطريق، وبإرادة شعبية لا تقبل المساومة. فقد أكد رئيس الوزراء أن الحكومة السودانية ملتزمة بإجراء حوار سوداني–سوداني شامل، يُنهي جميع القضايا العالقة، ويُفضي إلى انتخابات حرة ونزيهة، تُعيد للشعب السوداني حقه في اختيار من يحكمه، بعيدًا عن منطق القوة والسلاح.

خطاب رئيس الوزراء السوداني في الأمم المتحدة لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل كان إعلانًا سياسيًا يحمل دلالات عميقة، ويعكس تحولًا نوعيًا في الخطاب الرسمي السوداني تجاه قضايا الحكم والديمقراطية والسيادة الوطنية. لقد أعاد الخطاب التأكيد على أن السودان، رغم الجراح، لا يزال قادرًا على النهوض، وأن روح الدولة المدنية بدأت تجد طريقها إلى المحافل الدولية، مدفوعة بإرادة شعبية لا تُقهر، ورغبة صادقة في بناء وطن يسع الجميع.

محمد الحاج
٢٦ سبتمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!