المَسْخُ الرُّباعيُّ : كَيْفَ فَصَّلَتْ أَبوظَبْيِ البَيَانَ على هَواها؟ (2/2)

1
في ختام الحلقة الأولى من هذا المقال قلت: (بناءً على تلك الأكاذيب التي سمّوها مبادئ، قدّمت الرباعية رُوشتها المسمومة لحل النزاع).ما هي تلك الروشتة التي غلّفوها بدعوة تحمل كل سمات الأوامر النهائية؟
الرباعية، بمنطق بهذه الاوامر، أصبحت هي الآمر والناهي في أمر كل السودان؛ بمعنى هى سلطة انتداب جديدة ذكّرتنا بأيام الباب العالي والمفوض السامي وما إلى ذلك من مفردات الفترة الاستعمارية في ذلك الزمان، الذي تسعى الرباعية لاستعادته الآن.
الانتداب كان نظامًا استعماريًا فرضته عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، فوُضعت دول مثل فلسطين والعراق وسوريا ولبنان تحت سلطة بريطانيا أو فرنسا بدعوى أنها “غير مؤهلة لإدارة شؤونها”. عمليًا، كان ذلك غطاءً لاحتلال مباشر تتحكم فيه دولة أجنبية بكل صغيرة وكبيرة.
أما الباب العالي، فهو الاسم الذي أُطلق على مقر السلطان العثماني في إسطنبول، وكان يُستخدم كناية عن أوامر الدولة العثمانية العليا التي تُفرض على ولاياتها من دون نقاش.
والمفارقة أن بيان الرباعية اليوم يُعيد إنتاج تلك الصيغة الاستعمارية القديمة، بقرارات تصدر من واشنطن وأبوظبي، تُنفذ في الخرطوم وكأنها أوامر من “سلطان جديد” أو “مفوض سامٍ” يتصرّف في السودان كما يشاء.
2
ملحوظة قبل البدء: كلما ذُكرت، كلمة (دعا) اقرأوها بمعنى (أمر)!!
الآن بماذا يا ترى أمرنا سادتنا في الرباعية؟
أولًا، يقترح البيان بل يامر:
(دعا الوزراء إلى هدنة إنسانية أولية لمدة ثلاثة أشهر لتمكين دخول المساعدات الإنسانية بسرعة إلى جميع أنحاء السودان).
ثم قرروا:
(أن تقود هذه الهدنة مباشرة إلى وقف دائم لإطلاق النار).
وايضا قرروا:
(تُطلق عملية انتقالية شاملة وشفافة تُختتم في غضون تسعة أشهر).
وكل ذلك يجب أن يتم:
(من خلال عملية انتقالية شاملة وشفافة).
وتلك العملية:
(لا تسيطر عليها أي من الأطراف المتحاربة).
وكل تلك الأوامر انما جاءت :
(لتلبية تطلعات الشعب السوداني نحو إقامة حكومة مدنية مستقلة بقيادة مدنية، ذات شرعية واسعة النطاق وخاضعة للمساءلة).
وكانت يا عرب…
صدر تحت توقيع سلطان الباب العالي في واشنطن ووكيله الحصري في أبوظبي.
3
هنالك عدة أسئلة تواجهنا ونحن نسعى لتنفيذ أوامر سادتنا الجدد إبان “عقال وكسكسته وكرفته”… نرجو من سادة الرباعية أو حتى عبيدها أن يسعفونا بالإجابة عليها.
أولًا: أين هي المساعدات لنتمكن من إدخالها خلال الثلاثة أشهر التي قررتموها كهدنة؟
بالأمس أكدت منظمة أوتشا أن تمويل العمل الإنساني في السودان يواجه عجزًا ضخمًا بلغ 78% لتمويل عمليات الأمم المتحدة. المبلغ المطلوب 4.2 مليار دولار خلال العام الحالي للنازحين داخل السودان، وما توفر منه 22.9% فقط لمواجهة الاحتياجات العاجلة!! ليس لدينا أموال لتنفيذ أمركم. إذن ادفعوا لكي نحصل على المساعدات أولًا، ومن ثم نوافق على إدخالها، فهي غير موجودة الآن أصلًا!! أم تريدون أن نمضي لكم على شيك على بياض، بسبب أنكم تعتقدون أنكم آلهة الكون ويجب ألا يُرد لكم أمر؟!!
ثانيًا : هذه المساعدات التي ترافقها هدنة تتحدثون عنها الان في المدن المحاصرة، بحّ صوت حكومتنا في طلبها ؛ وحثّت مجلس الأمن على تبنيها حتى أصدر قراره القاضي بفك الحصار عن الفاشر وتقديم المساعدات… وهذا القرار قبل ستة أشهر، ولكن الميليشيا وحلفائها رفضوا تنفيذ القرار الدولي، بل نهبوا الإغاثات المتجهة للمحتاجين إليها. فإذا فعلتم؟ لا شيء!! والآن يتحدثون عن هدنة، ليس لأيام… لا، بل ثلاثة أشهر، ليتمكِّنوا من إدخال المساعدات!!. إذا كان بمقدور الميليشيا رفض قرارات مجلس الأمن، أعلى سلطة في العالم نظريًا، فمن سيلزمها اليوم بالهدنة؟ وماذا فعلت من قبل بالهدن التي وافقت عليها الحكومة أيام منبر جدة؟ ألم تخرق أي اتفاق؟ بل قامت باستغلال الهدن لتعيد تموضع قواتها وتتشون وتتسلح من جديد.!!
هدنة جديدة مقترحة الآن بلا آليات مراقبة ولا إلزام بشيء، لإتاحة الفرصة للميليشيات للخروج من كماشة الجيش المطبقة الآن على الجنجويد في نواحي كردفان، والتي تتسارع خطاها الآن لفك الحصار عن الفاشر. خطة مكشوفة، وهيهات أن تمر علينا. عفوًا لن نستطيع تنفيذ أمركم لأننا نعلم أنكم تمكرون…
ولكن، هبْ أن الحكومة ارتجفت وخافت من أساطيلكم، وقررت الاستجابة لتلك الأوامر بالهدنة… فكيف ستقود الهدنة لتقديم المساعدات مجهولة التمويل والمصير مباشرة إلى وقف دائم لإطلاق النار؟ بالأوامر برضو؟! طيب من الأفضل أن يعلن الباب العالي أوامره مباشرة بوقف فوري لإطلاق النار في السودان، لا هدنة لمدة ثلاثة أشهر ولا هم يحزنون. لماذا هذا الانتظار وتطويل الموضوع؟! إن أمركم عجب ياسادتنا الجدد.
4
بعد أن قرر السادة هدنة يعقبها وقف دائم لإطلاق النار، قرروا أن:
(تُطلق عملية انتقالية شاملة وشفافة تُختتم في غضون تسعة أشهر).
ما هي تلك العملية؟ ومن هم أطرافها؟ وما معنى “شاملة”؟ ولماذا تأمروننا أن نطلقها ونختمها خلال تسعة أشهر؟ لماذا مثلًا لا يترك لنا سادتنا فرصة أن نتحاور خلال تلك العملية المتوهّمة مساحة من الزمن؟ عام، عامان، على كيفنا، ونحن شعب “نحب الجرجرة” وحبل المهلة عندنا يربط ويحل. لماذا يحشرونا في هذه الأشهر التسع؟ أهي عملية ولادة أم عملية انتقالية؟ أهي عملية قيصرية أم عملية انتقال سياسية لا يمكن تحديد سقفها الزمنى بالأوامر؟ لماذا تفعلون ذلك يا سادة؟ ماذا تعتقدون؟ هل نحن خراف في مزارعكم أم إبل في زرائبكم تهشون علينا فنستجيب لأمركم؟ إن في الأمر عجبًا!!
5
ومن الأعجب أن تلك العملية، بحسب الروشتة، لا تسيطر عليها (الأطراف المتحاربة)! بالله شوف… يعني عملية انتقال سياسي يُستبعد منها الجيش السوداني في بلده الذي يحكمها الآن!! طيب، إذن من الذي سيسيطر على تلك العملية؟ هل هي الرباعية مثلًا؟ أم هي “صمود” أم “تأسيس”؟ أم تقود البلاد خلالها وتسيطر عليها الأمم المتحدة بانتداب رمضان العمامرة أو حتى فولكر ليحكم السودان؟ بالطبع البيان ومقترحات السادة أباطرة الرباعية لا تجيب على هذه الأسئلة، لأن الاجابة من شأنها ان تنسف ما جاء في مقدمة بيانها حول السيادة، وذلك الهراء الذي ألقوه بلا معنى ولا قصد.
مرة اخرى .. عملية مفروضة من الرباعية، لا تسيطر عليها حكومة معترف بها دوليًا، يعني ذلك أنك نزعت شرعيتها أولًا، ثم انتدبت لها محتلين أو عملاء ليقوموا بمهام الدولة ويفصّلون العملية “الانتقالية الشاملة والشفافة” على حسب هواهم وأجندة سادتهم بالخارج!!.كشف لي هذا البند في البيان أن ابوظبى قنعت من خيرا في ذراعها المستاجرة مليشيا ال دقلو التي انحطت سمعتها في العالمين جراء جرائمها التي وصلت حد الابادة الجماعية ويطاردها الكونغرس الآن بتهمة الإرهاب.
ولكنها للأسف بدلا من الاتعاظ من فشل محاولة اختطاف الدولة السودانية بواسطة الجنجويد تحاول الآن مجددا تسوق خيالات المآته حمدوك وطاقمه وشتله الهاربة ومن الغباء أن تعتقد أبوظبي أن ما فشلت فيه بقوة السلاح والابادة تستطيع أن تحققه وتصل اليه عبر ( مومياوات)!!
تُرى هل يتذكر هؤلاء “الطارئون على التاريخ” أن أجدادنا قاتلوا الإمبراطورية العظمى “بسيوف العُشر”، وقاوموا مدافع المكسيم بصدورهم العارية؟!!
6
أيها السودانيون، كل تلك الأوامر لأجلكم!! أي والله، بحسب أباطرة الرباعية، فإن كل تلك الأوامر جاءت:
(لتلبية تطلعات الشعب السوداني نحو إقامة حكومة مدنية مستقلة بقيادة مدنية، ذات شرعية واسعة النطاق وخاضعة للمساءلة).
استوقفتني عبارة: “بقيادة مدنية ذات شرعية واسعة النطاق”. وما هي تلكم القيادة المدنية التي تتمتع “بشرعية واسعة النطاق” المؤهلة لقيادة تلك الحكومة المدنية.؟!! من يهبها تلك الشرعية؟ الرباعية أم الشعب السوداني؟! يعني نزعوا الشرعية من الحكومة الحالية والجيش ليهبوها لقيادة مدنية مجهولة الهوية، ثم نزعوا عن الشعب حقه في تسمية قيادته، لأن تلك القيادة المدنية التي يقترحونها غير منتخبة ديمقراطيًا منه، وغير معلوم مصدر شرعيتها!!.إن ما تفعله الرباعية اليوم هو إعادة إنتاج للانتداب بوسائل جديدة، لكن السودانيين الذين قاوموا بالأمس إمبراطوريات عظمى، لن يُسلموا اليوم وطنهم في طبق من ذهب لمستعمرين جدد، مهما تلونت أقنعتهم.
7
هكذا لم يتبقَّ للسادة أباطرة الرباعية، بحسب روشتتهم، إلا أن يرفعوا أعلام دول الانتداب الجديد في سارية القصر الجمهوري، ويسمّوا الحاكم العام، وينصبوا حمدوك رئيسًا للوزراء، ويعيّنوا عبد الرحيم دقلو قائدًا عامًا للجيش، و”البعاتي” مرشدًا… ويعلنوا “الإبراهيمية” دينًا جديدًا للسودانيين، و”دستور الحلو” حاكمًا… ولن ينسوا طبعًا أن يغرسوا راية النصر المجاني على قبور شهدائنا في القصر والقيادة العامة وسركاب ود النورة، وفي قلب ديار المساليت!!. وهم يفعلون ذلك بكل بجاحة، عليهم فقط وهم يصعدون سلالم القصر الجمهورى أن يتذكروا أن رأس غردون تدحرج ذات يوم من فوقها… وهذه الذكرى هي فقط من ستعيد لهم بعضًا من عقولهم وقد تردع بعضًا من عملائهم.
والله غالب على أمره.