✍️ أماني الطويل
تتزايد يوميا مؤشرات تفكك سياسي في السودان على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية، كما أن هناك بروزا لمصالح أطراف قد تسعى إلى فوضى في السودان، حيث توفر لهم هذه الحالة من عدم الاستقرار نوعا من السيادة لقادة القبائل أو الميليشات والحركات المسلحة تم اختباره في الصومال قبل عقدين وأنتج إنهيارا لمؤسسة الدولة ذاتها. وربما يكون من أخطر ما جرى في مظاهرات ٣٠ ديسمبر في السودان هو الهجوم الأمني العنيف على مكتبي قناتي العربية والحدث، في مستوى مغاير للهجوم على باقي المكاتب الإعلامية، ثم إرسال موفد من جانب رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان للاعتذار عن هذا التطور المؤسف.
الدلالة المباشرة لهذا التطور أن جناحا في المؤسسة الأمنية يريد إحراج البرهان مع المملكة السعودية التي تقود حاليا جهود وساطة بين الأطراف السودانية للوصول إىي حالة توافق سياسي تتيح تشكيل الحكومة التنفيذية التي تعثرت على مدى شهر ونصف تقريبا، وهو مايعني وجود مصالح لدى بعض الأطراف لتفكك الدولة من داخل جهاز الدولة نفسه.
في هذا التوقيت فإن تقديرات الموقف لدي المكون العسكري في المجلس السيادي تبدو متمترسة حول رؤى غير واقعية قد تبلورت في إطار الصمود إزاء ضغط الشارع والتظاهرات المجدولة من جانب تحالف لجان المقاومة وتجمع المهنيين حتى بالوسائل العنفية التي تنتج قتلى مع كل مظاهرة. وقد اتضحت طبيعة هذا الموقف مع تصريحات مستشار المجلس السيادي العميد الطاهر أبو هاجة الذي قال إن التظاهرات والمواكب الشعبية “لن تصل إلى أي نتيجة تذكر، ولن تنتج إلا تعطيلا للبلاد، كما أنها لن تساهم في بلورة أي حل سياسي “وهو خطاب لا ينتبه لتأثير مثل هذه الضغوط على مؤسسة القوات المسلحة السودانية ذاتها، وتداعيات الضغط الشعبي عليها خصوصا مع بروز نداءات من ساسة سودانيين من صفوف تحالف الحرية والتغيير يدعون القوات المسلحة السودانية للتدخل في المشهد بعيدا عن قائدها الراهن الفريق عبد الفتاح البرهان.
كما أن خطاب أبو هاجة يخاصم فيما يبدو لنا تركيب الوجدان السوداني الذي لايتأثر غالبا بمهددات لقمة العيش، بل إن هذا النوع من التهديد قد يزيده عنادا.
وعلي نحو مواز، فإن المبادرة التي تقدم بها حزب الأمة القومي لإنتاج توافق سياسي، قد أنتجت انقساما في الحزب نفسه فضلا عن تحفظات من القوى السياسية الأخرى، أسباب الانقسام الحزبي تبدو في أمرين الأول أن المبادرة قد صدرت عن قيادة الحزب اللواء فضل الله برمة، المنتمي للمؤسسة العسكرية السودانية، وذلك بمعزل عن المستويات التنظيمية للحزب. والأمر الثاني أن المبادرة قد تبلورت على الأساس الهيكلي للوثيقة الدستورية أي شراكة المكونيين المدني والعسكري، وهي هيكلية أصبح يرفضها القطاع الأكبر من القوي السياسية السودانية، حتى داخل حزب الأمة نفسه خصوصا أجياله الشابة والوسيطة، وذلك نظرا لممارسات المكون العسكري في إسقاط الوثيقة الدستورية ذاتها في ٢٥ أكتوبر الماضي من ناحية وممارسات ذات المكون العنفية ضد المتظاهرين على مدي أكثر من عامين من ناحية أخرى.
وعلي صعيد ثالث، فإن القوى الشبابية في لجان المقاومة تتمترس حول رؤية كلاسيكية تتمحور حول أن الضغط المتوالي على المكون العسكري لابد وأن ينتج تراجعا منه لصالح المطالب الثورية، والتي تدعو لتنحيه عن معادلة الشراكة في السلطة والتخلي عنها كاملة لصالح المكون المدني، وهو تقدير لا يأخذ بعين الاعتبار أمرين: الأول، تعدد القوى العسكرية في السودان ووجود تناقضات بينها ومصالح مختلفة، قد تقود إلى مواجهات مسلحة هي بالضرورة تقود إلى فوضى لن يحصل فيها أي من الأطراف المدنية على مكاسب من أي نوع، أما الأمر الثاني، فإنه لا وجود لحالة توافق سياسي أصلا بين القوى السياسية السودانية، وهو الأمر الذي يتيح صراعات مركبة على المستوى المدني.
أما على مستوى النخب السياسية المستقلة فنلحظ اتجاها للدعوة لتنحي جميع الوجوه التي ساهمت في بلورة المشهد السوداني الراهن والمأزوم. والسعي لاستبدالهم بوجوه أخرى لكن غير محملة بأوزار الفترة الماضية السياسية والدموية، على أن هذا الطرح لايملك آليات واضحة لعمليات الإحلال والتجديد المطلوبة، وهو مايجعل هذه الدعوات معلقة في فضاءات التنظير.
المشهد السياسي السوداني المرتبك جعل جهاز المخابرات العامة يدخل على خط الجدل السياسي بعد التنديد بعودة صلاحياته التي كان يتمتع بها على وقت الرئيس المخلوع عمر البشير، وهي الصلاحيات التي تم إلغاؤها مع حكومة الثورة الأولى، لصالح دعم الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان .
في هذا السياق صدر بيان خطير في تقديرنا عن الجهاز الذي يقوده حاليا أحد المحسوبين على النظام السابق تم فيه رصد حالة التردي السياسي بالقول إن الوضع السياسي الراهن ينذر بكارثة تلوح في الأفق حسب بيان الجهاز الذي يطرح نفسه لاعبا على المسرح السياسي، وذلك بـ”التقاط قفاز التحدي، وتقديم مُبادرة وطنية شاملة لا تستثني أحدا، لتحقيق إجماع وطني لكل أهل السودان بأحزابه وكياناته وقبائله المختلفة للمضِي قُدُما والخروج بالسودان من هذا المأزق الخطير”.
المشهد السوداني الداخلي يغيب عنه أي قدرة للأطراف الدولية أو الإقليمية على العمل نحو بلورة توافق يقود إلى معادلات تفاعل بين الأطراف السياسية والعسكرية والميليشاوية مستقرة للفترة الانتقالية السودانية، وتحت مظلة هذا الوضع المأزوم فإن طرح عقد الانتخابات كحل للقفز على المشهد الراهن تبدو غير عملية أو هي مجرد محاولة تخدير لا أكثر، وذلك في ضوء الخبرة التي اكتسبها المجتمعان الدولي والإقليمي في حالة ليبيا التي برز فيها أن التوافق السياسي الداخلي هو الترياق الوحيد الذي يبدو فعالا في مثل هذا النوع من الأزمات.
وهكذا استقر الموقف الدولي إزاء الأزمة السودانية عند مستوى الإدانة لمواجهة التظاهرات بالعنف الأمني الذي ينتج حصيلة من الشهداء مع كل مظاهرة، وهو ما صدر عن الأمم المتحدة وكل من واشنطن ولندن، بينما عجزت البعثة الأممية عن مساندة الانتقال الديمقراطي وهي المهمة التي جاءت من أجلها إلى السودان، بينما تصمت واشنطن عن الضغط على المكون العسكري في ظل عدم وجود توافق سياسي مدني يمكن أن يكون بديلا للمعادلة التي تم طرحها في الوثيقة الدستورية .
وعلى المستوى الإقليمي فإن التناقضات الثانوية بين دول الخليج تهدد المبادرة السعودية للتوافق السياسي، وتجري محاولة عزل مصر عن التفاعلات السودانية عبر آلية الرباعية التي تقودها واشنطن وبريطانيا بمشاركة كل من المملكة السعودية ودولة الإمارات، بينما غير معروف على وجه الدقة طبيعة الموقف المصري من التفاعلات الجارية في السودان في ضوء تعتيم اعتادت أن تلجأ إليه القاهرة خصوصا في حالة تصاعد التوتر في الأزمات السودانية.