الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

المجلس التشريعي الغائب: مفصل الانتقال الديمقراطي ومواجهة التحديات السيادية

محمد الحاج

يشكّل غياب المجلس التشريعي في السودان أحد أبرز مظاهر العجز المؤسسي الذي عطّل مسار الانتقال الديمقراطي، وأضعف قدرة الدولة على بناء نظام سياسي متماسك يعكس تطلعات الشعب السوداني في قيام الدولة المدنية و التي من اجلها قيام الشعب السوداني بثورته التي أسقطت نظام عمر البشير في أبريل 2019، لقد دخل السودان في مرحلة انتقالية كان يُفترض أن تُفضي إلى حكم مدني ديمقراطي شعبي، عبر تأسيس مؤسسات دستورية وتشريعية وقضائية متوازنة. غير أن تعثّر تشكيل المجلس التشريعي، رغم النص عليه في الوثيقة الدستورية، أدى إلى فراغ تشريعي خطير، سمح بتغوّل السلطة التنفيذية، وأفقد العملية السياسية شرعيتها الشعبية، وفتح المجال أمام التدخلات الخارجية و التي ماتزال تؤثر علي المشهد السياسي في السودان.

في السياق القانوني، يُعدّ المجلس التشريعي الانتقالي ركيزة أساسية في بناء الدولة، وهو الجهة المخوّلة دستورياً بممارسة السلطة التشريعية، وسنّ القوانين، ومراقبة أداء الحكومة، وضمان التوازن بين السلطات. الوثيقة الدستورية لعام 2019 نصّت بوضوح على ضرورة تشكيل هذا المجلس، ليكون ممثلاً للقوى الثورية والمجتمعية، ويضطلع بدور محوري في إدارة المرحلة الانتقالية. ورغم تعثر تنفيذ هذا النص، فإن الظروف الراهنة، بما فيها الحرب المشتعلة جراء تمرد مليشيا الدعم السريع لا تُسقط الحاجة إلى المجلس، بل تُضاعفها.

في ظل الحرب، قد يبدو الحديث عن تشكيل مجلس تشريعي ضرباً من الترف السياسي، لكن الواقع يفرض التفكير في آليات بديلة تتناسب مع الوضع الاستثنائي. فيمكن، على سبيل المثال، تشكيل هيئة تشريعية انتقالية مصغّرة، تضم ممثلين عن الأقاليم، والنقابات، والمجتمع المدني، والحركات الثورية، وتعمل على سنّ تشريعات عاجلة تتعلق بسن القوانين المتعلقة بالإصلاحات المؤسسية للدولة. هذا المجلس المؤقت يمكن أن يُشكّل نواة لمجلس دائم يُستكمل لاحقاً بعد استقرار الأوضاع، ويُنتخب عبر عملية ديمقراطية شفافة.

وجود مجلس تشريعي انتقالي لا يُعزّز فقط من قدرة الدولة على إدارة شؤونها الداخلية، بل يُحصّنها أيضاً من المشاريع الخارجية التي تسعى إلى فرض حلول لا تعبّر عن الإرادة الوطنية. فالمجلس يمنح الحكومة شرعية داخلية، ويُعيد التوازن بين السلطات، ويُسهم في بناء موقف تفاوضي موحد في أي محادثات دولية أو إقليمية. كما يُعدّ المجلس منصة مؤسسية لمناقشة القضايا الكبرى، مثل العدالة الانتقالية، و قضية إصلاح القوات النظامية، وتوزيع الثروة والسلطة، وهي قضايا لا يمكن حسمها إلا عبر نقاش تشريعي واسع يُعبّر عن مختلف مكونات المجتمع السوداني.

بعد تعيين المحكمة الدستورية، التي تُعدّ خطوة مهمة في استكمال الهياكل القضائية، يصبح من الضروري إتمام الهياكل التشريعية، لأن غياب أحد أركان الدولة يُفقدها القدرة على العمل المؤسسي المتكامل. فالمحكمة الدستورية وحدها لا تكفي لضمان سيادة القانون، ما لم يكن هناك مجلس تشريعي يُسنّ القوانين، ويُراقب تنفيذها، ويُحاسب من يخرقها. إن تعزيز دور الحكومة التشريعية في هذه المرحلة يُعدّ حجر الزاوية في عملية الانتقال، لأنه يُعيد الثقة في الدولة، ويُمهّد الطريق نحو انتخابات حرة، ودستور دائم، ونظام ديمقراطي يُعبّر عن تطلعات الشعب السوداني.

إن غياب المجلس التشريعي لا يُمثّل مجرد خلل إداري، بل هو عائق جوهري أمام بناء الدولة السودانية الجديدة. والحل لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في المبادرة إلى تشكيل مجلس تشريعي انتقالي يُعبّر عن الإرادة الشعبية، ويُعيد الحياة إلى العملية السياسية، ويُحصّن البلاد من المشاريع الخارجية، ويُمهّد الطريق نحو دستور توافقي يُنهي حالة الانقسام، ويُؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تُدار بالمواطنة والقانون.

محمد الحاج
٩ اكتوبر ٢٠٢٥

اترك رد

error: Content is protected !!