
لم تكن الفاشر مدينة عادية في جغرافيا حرب الكرامة، بل كانت معزوفة من الصمود تسكنها البطولة، وترفرف على أسوارها رايات الفداء. في الأمس القريب، وبعد أكثر من خمسمئة يوم من الحصار المتوحش، تشهد قيادة الفرقة السادسة مشاة بالفاشر و بعض اجزاء المدينة معارك ضارية وسط ترويج لأنباء عن سقوطها في أيدي اوباش مليشيا التمرد والارتزاق، لكن نؤكد أن الفاشر تظل شامخة الرأس شموخ الجبال الراسيات تحاكي شموخ و عزة أهلها و جندها، حاضنةً لأعظم ملاحم الثبات والبسالة التي كتبها رجال الفرقة السادسة مشاة بدمائهم الطاهرة على صفحات التاريخ.
لقد سَطّر أبطال الفرقة السادسة بالفاشر و رفقاؤهم من القوات المشتركة و المستنفرين واحدة من أروع ملاحم الدفاع عن الوطن، صابرين صامدين في وجه آلة الحرب والعدوان، رافضين الاستسلام رغم الحصار والقصف والتجويع، لقد سطر الابطال بدمائهم وأرواحهم كتابًا من كتب التأريخ يصعب تجاوزه و يندر وجوده.
لقد قدم اللواء الركن محمد أحمد الخضر ورفاقه نموذجًا ناصعًا للقيادة العسكرية الشجاعة، التي لا تعرف الانكسار، بل ظلوا يقاتلون حتى آخر نبضة و نفس، من أجل كرامة الوطن وشرف البندقية.
أُطبِق الحصار على الفاشر لأكثر من 500 يوم، في واحدة من أطول وأقسى عمليات الحصار في تاريخ الحروب المعاصرة. تعرضت المدينة خلالها لكل أشكال الانتهاكات الإنسانية من قصفٌ جوي ومدفعي مكثف، ترويعٌ للمدنيين والعزل، تجويعٌ ممنهج، وتهجيرٌ قسري؛ وسط صمتٍ مريب من المجتمع الدولي ومنظماته، وكأن الفاشر ليست على خريطة الإنسانية، بل لقد كشف حصار الفاشر و ممارسات مليشيا التمرد من قوات الدعم السريع و رعاتهم و مؤيديهم و داعميهم زيف ادعاء المؤسسات و المنظمات و المجتمعات التي تدعي كذبًا رعايتها و تبنيها و ايمانها بقضايا الانسان و الانسانية.
لم تكن الفاشر مجرد مدينة محاصرة، بل كانت في جوهر الصراع نقطة ارتكاز استراتيجية في معادلة الحرب على السودان. فموقعها الجغرافي الذي يربط دارفور بالعمق الوطني، وحدودها المفتوحة على مسارات التهريب و حركة السلاح ودروب الهجرة و النزوح، جعل منها هدفًا رئيسيًا لكل مشروع يسعى لتفكيك الدولة والسيطرة على شرايينها الحيوية. ولذلك، فإن صمودها لما يزيد على خمسمئة يوم، لم يكن دفاعًا عن مدينة فحسب، بل عن مركز ثقلٍ استراتيجي يعادل وزنه في ميزان الحرب والسياسة.
لم تكن معركة الفاشر مجرد دفاع عن مدينة، بل كانت 268 معركة متتالية صدتها القوات المدافعة بثبات أسطوري قل نظيره في سفر التأريخ:
268 هجمة للتآمر باءت بالفشل
268 هجمة تكسر فيها الزحف عند بوابات البطولة
268 هجمة صمدت فيها المدينة في وجه التآمر الإقليمي والمرتزقة العابرين للحدود
هجماتٌ موّلتها دول تدعى صلة العقيدة و العروبة و تزعم الاخوة و الصداقة، و اخرى مجاورة و ذات قربى و صلة دم و اختلاط قبائل و نسب؛ هجمات و معارك خُطط لها من وراء الحدود الغربية و رسم سيناريوهاتها و حدد اهدافها فاعلين هم عدو السودان و شعبه الفعلي يديرون الامر من وراء ستار و عبر الوكلاء المحليين و الاقليميين، هجمات دُعمت بأموال الارتزاق وسلاحٍ الخيانة؛ أُغدق بها على أذناب الخراب وأدوات الدمار، لكنها جميعها تحطمت على صخرة الرجال اصحاب العزيمة و الايمان بالوطن ذوي الهمم العالية.
كان الميدان شاهداً على تضحيات عشرات الشهداء من الجيش والقوات المشتركة والمستنفرين، يقابلهم آلاف القتلى من المليشيا والمرتزقة. معركة لم تكن بين جيش ومليشيا فقط، بل بين قيمتين، قيمة الإيمان بالوطن، وقيمة الارتهان للمال الحرام والعمالة.
لقد عرّى حصار الفاشر الطويل ازدواجية المعايير الدولية، وفضح عجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض التزام المليشيات المتمردة بالقانون الدولي الإنساني. إن الصمت الدولي المريب، بل والتواطؤ الضمني من بعض الأطراف الإقليمية والدولية، أسهم في إطالة أمد المأساة وفتح الباب واسعًا أمام جرائم حرب وانتهاكات جسيمة. لكن التاريخ لا يُمحى، وسيُسجَّل أن هذه المدينة واجهت وحدها كل تلك القوى، ووقفت في وجه الطغيان بصلابة الجبال.
وإن سقطت بعض اجزاء الفاشر اليوم، فهي لن تسقط إلى الأبد. وهي حتمًا ستعود كما عادت الخرطوم و مدني و سنار و كل مدن السودان الغالية التى دنسها جنود التمرد حينًا من الزمان ثم تطهرت من الرجس و اغتسلت من العفن، ستعود كما عادت كل البقاع الطاهرة الحرة الغالية و التي ارتوت بدماء أبنائها لكنها اكتست بكساء العزة و الفخار.ستعود بعد يوم، بعد أسبوع، أو حتى بعد مئة عام… لكنها حتمًا ستعود.
ستعود لأن في عودتها عودة الحق وزهوق الباطل المتدثر بحكومات الزيف المرتهنة للخارج وقوات الارتزاق المدعومة و المسنودة من وراء الحدود، الحكومات الواهنة و الزائفة و القوات القميئة منزوعة أخلاق القتال و معدومة فضائل الحياة و قيمها، والمرتوية جميعها بمال الغدر و الطغيان و المتصفة بشيمة خيانة الاوطان و قهر الشعوب.
إن ما حدث بفاشر السلطان، فاشر المجد و الخلود من سقوط جزئي ومؤقت، لا يمثل مجرد حدث ميداني عابر، بل يحمل في طياته تداعيات استراتيجية عميقة على مسرح العمليات في دارفور والسودان عمومًا. فالفاشر كانت وما زالت مركز ثقل لوجستي وسياسي وعسكري، وبوابةً للسيطرة على الإقليم الغربي وطرق الإمداد من الحدود الغربية. ولذلك، فإن وقوعها في قبضة المليشيا، ولو إلى حين، سيؤدي إلى إعادة تموضع تكتيكي للقوات المسلحة وإعادة ترتيب أولويات العمليات العسكرية في الإقليم، كما سيشكل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة ممثلة في قيادتها السياسية و العسكرية على استعادة زمام المبادرة وفرض سيادتها على المناطق الحيوية. ومع ذلك، فإن طبيعة هذه السيطرة الجزئية والمؤقتة، المعزولة جغرافيًا، والمحمّلة بتناقضات داخلية وخارجية، تجعلها هشّة بطبيعتها وعرضة للانهيار مع أول تحرك استراتيجي منظم للقوات المسلحة وحلفائها.
إن معركة الفاشر لم تكن معركة جغرافيا محدودة، بل كانت معركة وطن بأسره، ومعركة على هوية السودان وسيادته وقراره الوطني الحر. ففي كل رصاصة أطلقها المدافعون، كانت تُكتب رسالة للأجيال القادمة بأن هذه الأرض لا تُؤخذ بالغدر ولا تُحكم بالوكالة، وأن السودان ليس ساحة مفتوحة لأطماع المرتزقة ولا ملعبًا لمشاريع الآخرين. إن سقوط الفاشر، وإن كان مؤقتًا، قد أعاد تعريف معادلات الصراع على أرض السودان، وذكّر الجميع — حلفاء وخصومًا — بأن هذا الشعب لا يُكسر، وأن هذه الجغرافيا لا تُستباح بلا ثمن.
و بكل تأكيد، فإن حصار الفاشر ليس نهاية، بل بداية فصل جديد في ملحمة التحرير. فإرادة الجيش والقوات المشتركة والمستنفرين، وإيمانهم بقدسية الأرض والعرض، كفيلة باستعادتها عاجلاً غير آجل. أما الذين راهنوا على كسر صمودها، فقد خاب رهانهم؛ لأن ما بُني على الخيانة لا يصمد، وما ارتوى بالدماء الطاهرة لا يُمحى، بل حتمًا سيثمر نصرًا و فجرًا يشرق بالأمن و السلام.
الاثنين 27 اكتوبر 2025م



