الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

الفاشر.. مأساة تتجاوز الصوت الإنساني: حين يصمت العالم على جريمة مكتملة الأركان!؟

السفير د. معاوية التوم

السفير.د. معاوية التوم

لم تعد الفاشر، عاصمة شمال دارفور، وما حاولها من قري وأرياف مجرد ساحة حرب، بل تحوّلت إلى مرآة عاكسة لأزمة الضمير الإنساني في أبشع صورها. فبين أنقاضها، يتكثّف الدمار والموت والنزوح والجوع، وتتعالى استغاثات المدنيين في ظلّ صمتٍ دولي مطبق، لا يُقابله سوى بيانات باهتة ومواقف مرتبكة وتصريحات إعلامية مستنكرة من المنظمات والفاعلين الدوليين.

منذ اندلاع موجة العنف الأخيرة في مدن وقرى دارفور وكردفان، تتسع الفجوة بين حجم الكارثة وحجم الاستجابة الإنسانية. آلاف القتلى، وعشرات الآلاف من الجرحى والنازحين، ومئات الأطفال والنساء اللواتي وقعن ضحايا للعنف الجنسي الممنهج، فيما تتحدث تقارير من مؤسسات حقوقية وأكاديمية غربية مرموقة — أوروبية وأمريكية — عن أرقام صادمة قد تتجاوز الخمسين ألف قتيل خلال الأشهر الماضية وحدها. ومع ذلك، لا تزال المنابر الأممية عاجزة عن إنشاء آلية مستقلة لحصر الضحايا أو التحقيق في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي تُرتكب على مرأى ومسمع العالم.وتترك الساحة للجاني هندسة إخفاء الأدلة والإثبات علي وحشية الفعال وقسوة القلوب التي نفذت المذابح والانتهاكات.
جغرافيا الموت والنزوح
تتحرك موجات النزوح في اتجاهات مختلفة، من القرى المدمرة في دارفور وكردفان إلى المدن القريبة والحدود الغربية، والي الولاية الشمالية، حيث يواجه المدنيون هجرة قسرية في ظروف مأساوية. لم تعد المسيرات الموجّهة مجرد سلاح عسكري جبان للفتك بالمدنيين ، بل تحوّلت إلى أداة ترويع ممنهجة، تستهدف الأسواق والمستشفيات ومصادر المياه والكهرباء، فتقطع شريان الحياة عن مئات الآلاف، وتفاقم الأوضاع الحياتية على ما هي عليه من كارثة ومآسي ومعاناة دون حلول.
المياه النظيفة والغذاء والدواء باتت أحلاماً مؤجلة. لا توجد أي بوادر لفتح ممرات إنسانية آمنة، ولا مؤشرات على تدخل فعّال من القوى الإقليمية أو الدولية، يفرض بإرادتهم التي تصنع القرار ( ٢٦٣٧ المعني بفك الحصار) وتعجز الامم المتحدة عن تنفيذه طالما تعلق بالاداة الوظيفية التي تتماهي ومخططهم الآثم في تقسيم البلاد . رغم أن الكارثة الإنسانية تتسع يوماً بعد آخر وعداد الضحايا والمشردين في اضراد .
تواطؤ الصمت الدولي وازدواجية المعايير
ما يثير السخط أكثر أن بعض الدول والمنظمات الدولية التي تمتلك القدرة على التأثير، تكتفي بالتصريحات الدبلوماسية الفضفاضة، والإدانات التي لا تلامس ويلات التمرد وحقده على الأبرياء والعزل ، بينما تُحجم عن اتخاذ خطوات عملية لإنقاذ المدنيين أو محاصرة التمرد ومحاسبة قادته وتصنيفهم . ورغم التقارير الموثقة التي أصدرتها منظمات حقوقية غربية ووكالات أممية، تُصرّ بعض القوى على إبقاء التمرد خارج دائرة الإدانة والعقوبات، وكأن هناك تواطؤاً ضمنياً مع مشروع الفوضى والتمزيق.

التمييز الجغرافي والابتزاز والنفوذ المالي والسياسي باتت معايير خفية في التعامل مع الكارثة السودانية. فما يجري في الفاشر، لو وقع ما حدث في عاصمة أوروبية أو شرق أوسطية أخرى، لاهتزّت المنابر الإعلامية والإنسانية على مدار الساعة. لكن هنا، حيث البشر سودانيون، والضحايا أفارقة، يبدو أن العدالة الدولية قد فقدت بوصلتها الأخلاقية والقيمية والمباديء زالحادية والموجهة للعمل الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربعة في حقوق الإنسان وحماية المدنيين.
مرتزقة وأجندات عابرة للحدود
تؤكد شهادات ميدانية ومصادر موثوقة أن مرتزقة من دول جوار أفريقية ومن كولومبيا وأماكن أخرى لعرب الشتات قد شوهدوا ضمن قوات الدعم السريع المتمردة والمليشيات المساندة لها في الفاشر. كما تتحدث معلومات ميدانية عن تورط مباشر لبعض شبكات الشتات السوداني في تمويل وتسليح تلك المجموعات، عبر مثلث الحدودي في ليبيا وتشاد وجنوب السودان .
الوسيط مسعد بولس، ومعه منظومة صمود وتأسيس بمنصاتهم الإعلامية والدعم القادم من الإمارات، يقودان — بحسب مراقبين — حملة ضغط وتخويف عبر التصريحات واللقاءات الإعلامية وغرف الناشطين، هدفها إجبار الحكومة السودانية والمجتمع على قبول هدنةٍ مشروطة، تُكرّس بقاء التمرد في مواقعه وتمنحه اعترافاً ضمنياً وشرعية سياسيةظل يحلم بها على رفض الموسسات الدولية لحكومتهم الموازية . هذه “الهدنة المفخخة” ليست سوى محاولة لإعادة تموضع المليشيا وترميم قدراتها بعد الخسائر، تحت لافتة إنسانية زائفة. تمكنها من بعد للاعتداء على مدن كردفان وبلوغ الأبيض .
هدنة بلا ضمير
الدعوات التي تتعالى اليوم باسم “الهدنة الإنسانية” لا تعكس رغبة حقيقية في إنقاذ المدنيين والضحايا ، بقدر ما تعبّر عن رغبة الأطراف الراعية للتمرد خاصة الرباعية في تثبيت الأمر الواقع. فالإيقاع الصاخب لهذه الدعوات، المدعومة من عواصم إقليمية وغربية، بات أعلى من أنين الضحايا وصراخ المهجرين ومعاناة العجزة والأطفال .
الواقع الميداني يؤكد أن التمرد يستخدم “الجوع كسلاح”، عبر حصار المدن ومنع خروج المدنيين وعرقلة وصول الإغاثات. هذه الممارسات البشعة تندرج بوضوح ضمن جرائم الحرب وفق القانون الدولي الإنساني، ومع ذلك لم تُفعّل أي آلية دولية لمساءلة الجناة أو توثيق الانتهاكات بصورة مستقلة وشفافة.
انهيار منظومة القيم الدولية
الصدمة الحقيقية لا تكمن فقط في حجم الفظائع، بل في صمت العالم. الأمم المتحدة عاجزة، والمنظمات الإنسانية الكبرى تكتفي ببيانات “القلق العميق والإدانات الخجلى”، بينما يموت الناس عطشاً وجوعاً وخوفاً في دارفور. لقد تحولت الجغرافيا إلى لعنة، والإنسان السوداني إلى رقم في تقارير النسيان وغياب الضمير الاممي .
المشهد في الفاشر، إذن، ليس مجرد كارثة إنسانية؛ إنه اختبار فاضح للمنظومة الدولية بأكملها، التي رفعت شعارات العدالة والإنسانية ثم تراجعت أمام مصالحها ونزاعات نفوذها وتقاطع مصالح الدول الكبرى التي تسقط في اختبار القيم والأخلاق والمواثيق.
خاتمة: ما بعد الكارثة
ما يجري اليوم في غرب السودان ليس حدثاً عابراً، بل معاناة من صنع سمارة الحرب وتجار السلاح ، فصل جديد من مأساة بدأت منذ عقود وتُدار بأدوات جديدة. فطالما بقيت العدالة رهينة التسييس، والجرائم بلا محاسبة، فإن جغرافيا الفاشر ستبقى شاهداً على انهيار الضمير العالمي، وكل آلياتها بلا جدوى ولا فعالية امام المجازر التي ترتكب من قبل تتار الصعر ومغول إفريقيا الجدد.
لقد آن الأوانى تتعالى الأصوات للأحرار في العالم عبر التظاهرات والتغريدات كي يصحى هؤلاء ، وتعود اليقظة الي عقولهم وضمائرهم لاعتبار ما يحدث في دارفور وكردفان قضية إنسانية كبرى، تستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً لحماية المدنيين وعقد جلسات طارئة لمجلس الامن للخروج بقرار واضح وادانة صريحة ومحاسبة المجرمين وفتح ممرات آمنة، لا هدنة تخدم المتمردين وتكافئهم وتعاقب الضحية . لأن الصمت في مثل هذه اللحظات جريمة توازي القتل ذاته، والمآسي الإنسانية التي ترتبت، بل تمنحه غطاء الشرعية، يا لها من خيبة وسقوط في هذا الزمان الأغبر.

٤ نوفمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!