
حين تتحول الحرب إلى مورد، والرصاص إلى لغة تفاوض، يصبح السؤال في مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ليس عمّا يجري، بل عمّا يعنيه أن يبقى العالم صامتًا أمام الفظائع. فالمأساة لم تعد صراعًا على الأرض، بل على معنى العدالة ذاته.
مقدمة .. الإطار القانوني للفظائع
يُعرّف القانون الدولي الإنساني جرائم الحرب بأنها الانتهاكات الجسيمة لقواعد النزاع المسلح، سواء كان دوليًا أو داخليًا. وتشمل هذه الانتهاكات استهداف المدنيين عمدًا، والقتل دون محاكمة، والتعذيب، والعنف الجنسي، وتدمير الممتلكات المدنية دون ضرورة عسكرية. وتُلزم اتفاقيات جنيف لعام ١٩٤٩ والبروتوكول الإضافي الثاني لعام ١٩٧٧ الأطراف كافة – حكومية كانت أو غير حكومية – باحترام تلك القواعد بوصفها الحد الأدنى من الإنسانية في الحرب.
ما جرى في إقليم دارفور منذ أبريل ٢٠٢٣، وتفاقم في عام ٢٠٢٥، يُظهر بوضوح انهيار هذا الحد الأدنى. فمليشيا الدعم السريع لم تُدِر حربًا ضد الدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية بقدر ما خاضت حملة منظمة ضد المدنيين. إنها حرب تُخاض على الهوية، تُستخدم فيها المجاعة والنزوح والعنف الجنسي كأدوات لكسر البنية الاجتماعية نفسها.
الفاشر.. السقوط مرتان
في أواخر أكتوبر ٢٠٢٥، سيطرت مليشيا الدعم السريع على مدينة الفاشر بعد حصار استمر ثمانية عشر شهرًا. لم يكن ذلك نصرًا عسكريًا، بل مشهدًا لانهيار الضوابط الأخلاقية للحرب. فخلال ساعات من دخول المدينة، انتشرت عمليات الإعدام الميداني، وتكدست الجثث في الشوارع، وأُحرقت منازل مدنيين استُهدفوا على أساس انتمائهم القبلي.
صور الأقمار الصناعية التي نشرتها جهات بحثية دولية أظهرت وجود مقابر جماعية في الأحياء الشمالية، فيما وثّقت منظمات حقوقية إعدام العشرات أثناء محاولتهم إدخال الطعام أو الفرار من المدينة. كانت الفاشر مدينة تُسقطها القوة مرة، ويسقطها الصمت الإنساني مرة أخرى.
زمزم.. المعسكر الذي صار شاهدًا
في أبريل ٢٠٢٥، هاجمت مليشيا الدعم السريع معسكر زمزم، أحد أكبر تجمعات النازحين في إقليم دارفور. خلال أيام قليلة، قُتل مئات المدنيين، واختفى ما يزيد على ألفي شخص. أُحرقت الأسواق، ودُمرت المرافق الطبية، وتحول المعسكر إلى قاعدة عسكرية. لم يعد زمزم ملاذًا للهاربين من الحرب، بل شاهدًا جديدًا على وحشية ممنهجة تستهدف ما تبقّى من الحياة المدنية في دارفور.
فرّ الآلاف إلى مدينة طويلة، يحملون مأساتهم في أقدامهم، فيما تلاشت فكرة “المنطقة الآمنة” من قاموس ضمير المجتمع الدولي.
الجوع كسلاح
في يونيو ٢٠٢٥، هاجمت المليشيا مستشفى جنوب الفاشر المدعوم من منظمة أطباء بلا حدود، مما أدى إلى مقتل عدد من المرضى والعاملين وإغلاق المنشأة. كما منعت مرور قوافل الإغاثة وأعاقت وصول المساعدات إلى أكثر من ٤٠٠ ألف نازح في معسكر زمزم.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن هذه المنطقة دخلت مرحلة IPC-5، وهي أعلى درجات تصنيف الأمن الغذائي وتعني حالة “المجاعة الكاملة”. إن استخدام الجوع كسلاح ليس تكتيكًا عسكريًا، بل جريمة مزدوجة: ضد الجسد وضد الكرامة الإنسانية في آنٍ واحد.
العنف الجنسي.. أداة لتمزيق المجتمع
وثّقت منظمات حقوقية عشرات حالات الاغتصاب والعنف الجنسي في دارفور والخرطوم على يد عناصر المليشيا، بعضها طال فتيات في سن صغيرة. هذه الجرائم لا تُرتكب بدافع شخصي، بل تُستخدم كسلاح لإذلال جماعات بعينها، وتفكيك نسيجها الاجتماعي.
إنها حرب تُدار على الجسد لكسر إرادة الجماعة، حيث يصبح العنف وسيلة لتجريد الإنسان من ذاته قبل أن يُسلب حياته.
الدور الدولى .. بين الصمت والمساءلة
ما جرى في دارفور لا يحتاج إلى مزيد من لجان التحقيق بقدر ما يحتاج إلى موقف. على المجتمع الدولي فرض حظر شامل على توريد السلاح إلى مليشيا الدعم السريع، والتحقيق في الدور الخارجي الذي أسهم في استمرارها، خصوصًا الدعم المالي والعسكري الموثّق من دولة الإمارات.
أما الاتحاد الأفريقي فعليه أن يتجاوز بيانات القلق، وأن ينظر فى صياغة آلية فعّالة لحماية المدنيين ومنع تكرار المذابح. فالقانون الدولي لا يُختبر في النصوص، بل في الإرادة التي تطبّقه.
الفاشر اليوم ليست مأساةً محلية أو وطنية، بل هى اختبار لمدى قدرة المجتمع الدولى على أن يكون عادلًا حين يتطلّب الأمر ما هو أكثر من الكلمات.



