الرأي

العودة إلى الديار: مسؤولية مجتمع ووطن

بقلم: د. أمجد عمر

يعود أهلنا تباعًا من أرض مصر واخواتها إلى تراب السودان بعد أن ضاقت بهم سبل النزوح واشتاقت قلوبهم إلى أرض لم تفقد مكانتها في أرواحهم رغم الغياب. يعودون ليس إلى بيوت فقط، بل إلى ذكريات وأحلام وآمال مزقتها الحرب وشوّهتها الغربة. وما بين لحظة الوصول وتوق العيش بكرامة تتفتح أمامنا نحن الذين لم نغادر سؤال عميق: هل نحن مستعدون لاحتضانهم كما يليق بأهل السودان؟

إن الدور المجتمعي في هذه اللحظة ليس ترفًا ولا اختيارًا، بل هو فرض وواجب وأصل في هويتنا. فقبل أن تتحرك الجهات الرسمية، يتحرك ضمير الشعب. الشعب الذي عرف النفير منذ القدم، ولبّى الفزع دون سؤال، وفتح بابه قبل أن يُطرق. منازلنا يمكن أن تتحول إلى ملاذ مؤقت، ومساجدنا إلى تكايا، وأحياؤنا إلى ساحات للتكافل والإيثار. بإمكاننا أن نجمع القليل من الزاد والكثير من المحبة، فنصنع فرقًا لا تصنعه الدول بميزانياتها وحدها.

ما أحوجنا اليوم إلى إحياء إرث التكية والنفير، ذلك الإرث الذي تربّى عليه أجدادنا في القرى والمدن، حيث لا يبيت الجائع وحده، ولا يرمم البيت دون سواعد الجيران، ولا يُدفن الهم في قلب صاحبه دون أن يُقاسَم. هذه القيم ليست حكايات من الماضي، بل وصايا للنجاة في الحاضر والمستقبل.

من يعود اليوم لا يطلب منا قصورًا ولا امتيازات، بل شيئًا من الدفء وبعضًا من الرفق. كثيرون منهم يملكون منازلهم، لكنها أُهملت أو نُهبت أو تحطمت على مر الأشهر، وكل ما يحتاجونه هو يد تساعد في ترميم، وكتف يُسنَد عليه حتى تعود الحياة إلى جدرانها. الدعم لا يتوقف عند الجدران، بل يمتد إلى النفوس: بكلمة طيبة، وابتسامة، وحضن يعيد الإحساس بالأمان.

ومن لا يملك منّا إلا القليل، فليتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له”، فهذا هو جوهر التكافل الذي ندّعيه. وقد قال تعالى: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، فكيف بمن يملك شيئًا، ويمتنع عن بذله لأخيه الذي شردته الحرب؟

وفي لحظة كهذه، لا يمكننا إلا أن نرفع القبعة احترامًا للعاملين في المعابر والحدود، من رجال ونساء، من موظفين ومتطوعين، الذين يسهرون على راحة العائدين، يستقبلونهم بوجوه باسمة وخدمة صادقة، يضمّدون الجراح بصمت، ويقدّمون أعظم دروس الوطنية. هم الأبطال الذين لا تتحدث عنهم الكاميرات، لكن يعرفهم كل من عاد فوجد ابتسامة تستقبله قبل السؤال.

استقرار العائدين ليس معجزة، بل هو ثمرة تعاون حقيقي بين أبناء الشعب. نحن نملك الأرض والنية الطيبة والقلوب الرحيمة، وما ينقصنا فقط هو أن نتذكّر أننا شعب لا يخذل، وأن الأوطان لا تُبنى بالحكومات وحدها، بل بسواعد الناس وضمائرهم ودموعهم التي تنزل إذا ضاق الحال على أخيهم.

فالنعود الي قيم التكافل والتراحم قبل العوده الي المنازل ولنفتح القلوب قبل البيوت، ولنمد الأيادي قبل أن ننتظر المساعدات، ولنتكاتف كما كنّا دائمًا حين تُحدّق الأزمات في وجوهنا. ولنجعل من عودة اللاجئين عودة للوطن في أرواحنا، لا في خرائطنا فقط.

اترك رد

error: Content is protected !!