الواثق كمير
kameir@yahoo.com
تورونتو، 1 مارس 2023
مُقدمة
في سياق سيرورة البحث عن طُرقِ إنهاء حالة انقلاب “فض الشراكة” واستعادة مسار التحول الديمقراطي بإقامة سلطة مدنية كاملة، لم تعُد قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي تُطالبُ بتنحي القائد العام للقوات المسلحة وقائد قوات الدعم السريع. بل تجاوزت موقف “لا للتفاوض”، وتوجهت للتفاوض مع ذات المؤسسة العسكرية في إطار عملية سياسية، مدعُومةٍ من مجموعة “الرباعية” والآلية الثلاثية. أثمرت هذه المفاوضات وتفاهماتها، القائمة على أساس مشروع دستور اللجنة التيسيرية لنقابة المحامين، عن “الاتفاق الإطاري” الذي وقعته هذه القوى، بجانب كيانات سياسية وتنظيمات “نقابية”، مع القائد العام للجيش وقائد الدعم السريع، في 5 ديسمبر 2022. وصفت قيادات المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير العملية السياسية المصاحبة للاتفاق بأنها كفيلة بإنهاء الانقلاب واستعادة التحول الديمقراطي وتأسيس السلطة المدنية الكاملة. في رأيي، أنّ المعيار الحقيقي للسلطة المدنية الخالصة وخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي هو الخضوع التام للسلطة المدنية، سيادية كانت أم تنفيذية،
بهذا التعريف، أزعمُ في هذا المقال أنّ هذه العملية السياسية الجارية، حتى إذا توصلت إلى اتفاقٍ نهائيٍ أو سياسيٍ، لن تُفضي لذهابِ الجيشِ إلى الثُكنات، خلال المرحلة الانتقالية. إنّ تسليم السلطة إلى “المدنيين” يظلُ مرهوناً بتوافق سياسي عريض على صيغة “دستورية” مُحددة لدور المؤسسة العسكرية خلال فترة الانتقال تضمن سلمية عملية التحول الديمقراطي، والوصولِ لحكومة مدنية منتخبة. لإثباتِ صِحة هذه الفرضية، يُلقي المقالُ الضوء على الشواهد الدالَّة من 1) تسلسل أحداث وقراراتٍ ومواقفٍ، مقرونةٍ بتصريحاتِ الجيش والسلطة، و2) ربما الأهم، منهجية القيادة العسكرية في التعاطي مع أمر السياسة وتعاملها مع أجهزة الدولة، وتطلعاتها للحكم، والمحافظة على مكتسباتها وامتيازاتها، خاصة في ظلِ واقعٍ سياسيٍ مأزوم.
انقلاب فض الشراكة: ما السبب الحقيقي؟
الشاهد الأول على النية المُبيتة لقيادة الجيش في الحفاظ على سلطة الدولة طِوالِ عُمرِ الانتقال هو ما جاء في “الوثيقة الدستورية الانتقالية” 2019 مدخلاً لتطبيقها على أرض الواقع. فالوثيقة، الفصل الرابع، تأسست على الشراكة في الحكم بين “المجلس العسكري الانتقالي” وقوى إعلان الحرية والتغيير بحيث يتقاسم الطرفان مقاعد مجلس السيادة، وبالتناوب بينهما في رئاسة المجلس السيادي: مربط الفرس. لذلك، أصرت قيادة الجيش على تولي الرئاسة في الواحد والعشرين شهراً الأولى للفترة الانتقالية على أن يرأس المجلس، في الثمانية عشراً المتبقية من الفترة الانتقالية، عضو مدني تختاره قوى إعلان الحرية والتغيير. كان حدسي منذ يوم التوقيع على الوثيقة أنّ قيادة الجيش لن تُسلم رئاسةَ المجلس لقوى الحرية والتغيير في أجلها المضروب، ولم تكن أصلاً لتذعِن بصيغة التناوب في الرئاسة، لولا حكم توازن القوة بعد 30 يونيو 2019. ولعلها كانت عدم فطنة أو سؤ تقدير سياسي من جانب هذه القوى في التخلي عن الرئاسة للمكون العسكري في الفترة الأولى. ولربما توازن القوى في تلك اللحظة، من جِهةٍ، وإحساس قيادات الحرية والتغيير بقرب الوصول إلى مقاعد السلطة، من جِهةٍ أخرى، قد حثهم على القبول بأن تؤول رئاسة المجلس للمكون العسكري في الفترة الأولى.
منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية
تدفقت مياهٌ كثيرة تحت الجسر، ومن فوقهِ، في العلاقة بين طرفي الحكم حتى قامت قيادة المكون العسكري بانقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021. الانقلاب في حدِ ذاتهِ يقِفُ شاهداً ثانياً، يتلازم مع الشاهد الأول، على أنّ قيادة الجيش كانت مُتمسكةً بالحفاظ على السلطة والبقاء في رئاسة الدولة. استفحلّ الاحتقانُ السياسي، وتفاقمّ الاسقطاب الحاد بين شركاء تحالف الحكم الانتقالي، وهي الحالة التي وصفها رئيس الوزراء المُستقيل ب “الانقسامات متعددة الأوجه” (مدني مدني – مدني عسكري– عسكري عسكري)، خاصة في أعقابِ ما أُطلق عليها “المحاولة الانقلابية” في 25 سبتمبر 2021. هذه الأوضاع المضطربة دفعت رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة، للانقلاب على، وفض الشراكة مع شركائه في قوى الحرية والتغيير، في 25 أكتوبر 2021. ومع ذلك، في رأيي أنّ ما قدح زناد الانقلاب هو تصعيد مطالبة تحالف قوى الحرية والتغيير بمغادرة القائد العام للقوات المسلحة مقعده كرئيس لمجلس السيادة ليحل مكانه المرشح “المدني” للتحالف، وفق أحكام الوثيقة الدستورية. فتعويلاً على نتيجة مليونية 21 أكتوبر لحسمِ أمرِ تسليم السلطة للمدنيين، حددت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، في ظهيرة نفس اليوم، موقفها من رفض المكون العسكري تسليم رئاسة مجلس السيادة إلى المكون المدني، وهو الأمرُ الذي عبرّ عنه الناطق الرسمي للمجلس المركزي بقوله: “لا مساحة لشراكة يتقدمها البرهان، نحن شراكتنا مع الجيش. فهذا الرجل لم نعُد نثق فيه (إبراهيم الشيخ، الجزيرة مباشر، 21 أكتوبر).
بعض قيادات القوى السياسية وكتاب الرأي يرون أنّ انقلاب فض الشراكة ولدّ ميتاً، ويدللون على ذلك بفشل القائد العام للجيش في تشكيل الحكومة بعد انقضاء عام وبضعة أشهر من عمر الانتقال. صحيحٌ، يبدو وكأنَّ القائد العام قام بانقلابه دون أن يمتلك رؤية واضحة وخطة عملية قابلة للتطبيق، على نسق ما وقع من انقلابات "كلاسيكية"، في 1958 و1969 و1989، والتي اشتركت في تدبيرها ودعمها قوى سياسية بعينها ولها مشروع سياسي. فلم يكن انقلاب فض الشراكة أصلاً يهدف إلى طرحِ وتنفيذِ مشروعٍ حتى يتسني لنا تقييمه بالفشل، بل كان هدفه محصوراً في بقاء القائد العام للجيش في موقعه. وهو الهدف الذي نجح في تحقيقه فظلّ على رأس الدولة بهذه الصفة، ولو في ظِلِ أوضاع سياسية مضطربة، وكسِبّ حلفاء في الداخل وفتح قنوات مع المجتمع الدولي. فأقطاب هذا المجتمع، خاصة أمريكا، هي من طلبت منه إرجاء تشكيل الحكومة حتى تتمكن الآلية الثلاثية من جمعِ الأطرافِ السياسية حول الاتفاق الإطاري، ومن ثمَّ يتمُ تكوين الحكومة.
الاتفاق الإطاري: شكوكٌ في إبعاده للمؤسسة العسكرية!
كما نوهت في المُقدمة، فبرعاية من مجموعة “الرباعية” (ومن خلفها الآلية الثلاثية) عدَّلت قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي موقِفها الرافض للتفاوض مع المكون العسكري “الانقلابي”، وتبنّت العملية السياسية كأداةٍ ووسيلة لإنهاء الانقلاب لتحقيق هدفي تجاوز الشراكة وإخراج “العسكر” من السلطة السياسية للدولة. لا أرغبُ في أن أزحم هذا المقال بالتحليلات والمواقف المُخالفة لكتاب الرأي، وببيانات وتصريحات قيادات قطاعات مُعتبرة من القوى السياسية، التي تُشكك في أن تقود العملية السياسية (أو الاتفاق الإطاري) المستنِدة على مسودة دستور تسييرية المحامين، إلى ذهاب الجيش للثُكنات. فنقرة واحدة على محرك بحث قوقل تنبئك باِلأمرِ. أكتفي فقط بالإشارة إلى موقف قطبين مؤسسين أساسيين في تحالف قوى الحرية والتغيير، هُما الحزب الشيوعي وحزب البعث، والذي عبر عنه بيانهما المشترك (20 فبراير 2023)، إضافة إلى تصريحات قياداتهما. يتفِقُ الحزبان على أنّ الاتفاق الإطاري “يُشرعِن” الانقلاب ويُطيل عمره، ويزرع الشِقاق في الجبهة المنادية بالتحول المدني، ويُفضي إلى تشكيل حكومة منزوعة السلطات لا تخضع لها الأجهزة الأمنية والعسكرية. “شرعنة” الانقلاب ببساطة تعني أنّ الوصولّ إلى أي اتفاقٍ سياسيٍ ودستوري مع قيادة الانقلاب يعني بقائهم شرعياً في السلطة، ليس بموجب الانقلاب إنما بموجب هذا الاتفاق، الذي لا يُعطي أي سلطة لـ “المدنيين وأنّ قِصة البرهان سيُسلِم السلطة للمدنيين توهمٌ”، فسيظلُ العسكريون يمارسون السياسة والحكم ويديرون الدولة بأمر القائد العام (وجدي صالح، قناة الجزيرة، 11 ديسمبر 2022).
تستدِلُ القوى الداعمة للاتفاق الإطاري على نجاعته في إخراج العسكريين من المشهد السياسي بالتشكيل المدني الخالص لمؤسسات الانتقال: مجلس وزراء على رأسه مدني، ومجلس سيادي مدني، ومجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء المدني. ومع ذلك، فحقيقةِ الأمرِ أنّ مجلس الأمن والدفاع (أو مجلس الأمن القومي)، فنيٌ بطبيعة مهامِه، لا يُحسّب ضمن هياكل السلطة الدستورية، فهو مجلسٌ أنشأه الرئيس نميري منذ سبعينات القرن الماضي، وتضُم عضويته وزراء مدنيين. وقد ظل موجوداً حتى أعاد تشكيلة رئيس مجلس السيادة بمرسوم جمهوري في 10 أكتوبر 2019. وأيضاً يدورُ حديثٌ، وتصريحاتٌ من قيادات سياسية، حول موافقة القائد العام للجيش بالعودةِ إلى الثُكنات لو حصل على الحصانات والضمانات اللازمة، وهي في ظنّي تتطلب بقاء القيادات العسكرية في السلطة في التجارب المُشابهة بدول العالم الثالث.
كنت قد طرحتُ سؤالاً في مقالٍ سابقٍ عمّا هي الجهة التي ستقوم بتعيين مجلس السيادة المنصوص عليه في الاتفاق الإطاري؟ بمعنى إلى من تؤول “السلطة التأسيسية”، بعد أن يتحول الاتفاق الإطاري إلى اتفاق نهائي أو سياسي بين الأطراف الموقعة عليه، ويُترجم في وثيقة دستورية جديدة؟ في محاولةٍ على الإجابة أيضاً تساءلت إن كان القائد العام للقوات المسلحة، بوصفهِ يُمثلُ سلطة “الأمر الواقع”، هو من يقوم بذلك، بِما يقدحُ في مصداقيةِ القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري تجاه تبشيرهم بسلطةٍ مدنيةٍ خالصةٍ، بدلاً عن الإقرارِ الصريحِ بضرورةِ أن يكون للمؤسسة العسكرية دور ما خلال المرحلة الانتقالية. (الواثق كمير، “المجلس التشريعي الانتقالي: الحاضر الغائب!” سودانايل، 9 ديسمبر 2022). وذلك، يعني أنّ القائد العام للجيش هو من سيصدر مرسوماً بحلِ مجلس السيادة، ومن ثمّ يُعين المجلس “المدني” وفق مواصفاته في الاتفاق الإطاري/السياسي، بينما يظلُ القائد العام في موقعه “العسكري”. وذلك، يعني أنّ رئيس مجلس السيادة “المدني” لا يملِكُ سلطةَ تعيينِ وإعفاء القائد العام للقوات المسلحة، بل يظلُ الجيش مُحتفظاً باستقلاليتهِ. مرجِعُ مُهمُ لقناعات الفريق أول البرهان في هذا الأمرِ هو اللقاء الذي أجرته معه الأستاذة لينا يعقوب، بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري مُباشرةً (مقابلة خاصة، العربية الحدث، 5 ديسمبر 2022).
وعليه، قد يخلِقُ هذا الترتيب الجديد نزاعاً جديداً وشيكاً بين القوى والحكومة المدنية، من ناحيةٍ، والمؤسسة العسكرية، من ناحيةٍ أخرى، يستدعي ابتداع شكلٍ جديد من التنسيق بينهما. وخلصت، في نفس المقال، إلى أنّ القائد العام ربما يُقدِمُ على إنشاء “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، الذي أعلنه من قبل، لهذا الغرض. والحقيقة، أن فكرة قيام هذا المجلس قد كانت مُتداولة في أروقةِ المؤسسة العسكرية، بهدف احتواء قائد الدعم السريع وقواته، قبل استقالة رئيس الوزراء في 3 يناير 2022. وبحسبِ عِلمي كان الفريق أول محمد حمدان دقلو يُطالب بأن يكون المُسمَّى “المجلس الأعلى للقوات المسلحة والدعم السريع”، وهو المطلب الذي رفضه القائد العام للجيش حينئذ. ولم يتمّ الإعلانُ عن المجلس إلاّ بعد عشرة أيام فقط من استقالة د. حمدوك. فقد أصدر القائد العام للجيش مرسوماً، في 13 يناير، شكل بموجبه المجلس الأعلى للقوات برئاسته وعضوية العسكريين في مجلس السيادة ورئيس هيئة الأركان، وقادة الأفرع العسكرية، وقائد قوات الدعم السريع (الأحداث نيوز، 15 يناير 2022). لم يظهر المجلس على السطح حتى عاد القائد العام للجيش في خطابٍ مشهورٍ بثه تلفزيون السودان، في مساء الاثنين 4 يوليو 2022، الذي أعلن فيه “عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في المفاوضات الجارية”. ففي نفس الخطاب ذكر الفريق أول البرهان أنه بصددِ حلِ مجلس السيادة، وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من الجيش والدعم السريع، بعد تشكيل حكومة تنفيذية. ولذلك، فإنّ الخبر الذي عمّ قُرى وحضرِ الأسافير، قبلِ أيامٍ قليلة، وكشف عن أن قائد الجيش يعتزِم على حل مجلس السيادة وتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لا مكان له من الإعراب، إلاّ من باب التذكير (الجزيرة نت، 21 فبراير 2023). وفي ظني، أن مقترح هذا المجلس قد كان أحد أهم ملاحظات قيادة الجيش على مسودة دستور اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، التي أٌطلقت على إثرها العملية السياسية الجارية. ولا يخالجني شكٌّ في أنّ قيادات قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي مُدركةٌ لهذا الأمر. ولعله من ضمن التفاهمات بين الطرفين حول أحد أهم القضايا الخمس المفُضية معالجتها لتوقيع الاتفاق النهائي أو السياسي: الإصلاح الأمني العسكري، مما يوحي بأنه قد تم الاتفاق بينهما على أن يكون هذا الإصلاح شأنا عسكرياً لا تتدخل فيه القوى المدنية. ومن الجديرِ بالذكرِ أنّ التراشق العنيف بالخطابات بين قيادتي القوات المسلحة والدعم السريع، التي ضجّت بها الأسافير في الأيامِ الفائتةِ يُمكِنُ فهمها في الجدلِ المُحتدم حول قضية الإصلاح الأمني والعسكري، خاصة معادلة الدمج. فلننتظِر انعقاد ورشة العمل حول هذه القضية والتي لم تقُم في أجلها المضروب، وأنها لن تكون مفتوحةً للإعلام على نسقِ الوِرشِ السابقةِ، مما ينبيء بخلافٍ على تفاصيلها. ويبدو أنّ قائد الدعم السريع يسعى لكسبِ القوى المُوقعة على الإتفاق الإطاري في سبيلِ احتفاظه بمكانته في الدولة بعد حلِ مجلس السيادة ، ليكون في الموقعِ الثانِ بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
تصريحات القيادات العسكرية والسياسية: شواهد على بقاء الجيش في السلطة!
ثمةَّ شواهد أخرى تتجلى في خطابات وتصريحات القائد العام للجيش وأركان حربه (الفريقان كباشي والعطا، في كادوقلي وود حامد، على التوالي) تدعم صِحة فرضية المقال بأن المؤسسة العسكرية لن تنسحب من المسرح السياسي خلال الفترة الانتقالية. فقد تكاثرت زيارات الفريق أول البرهان في مناطق متعددة، منذ الربع الأخير من 2022، خاصة في ريفي الخرطوم وولاية نهر النيل، في مناسبات اجتماعية (البسابير، كبوشية، الكتياب، البُسلي، وفي الدمازين)أو في ثُكنات عسكرية. وهكذا، في كافة خطاباته خلال هذه الزيارات، ظل القائد العام للجيش يُكرر الوعدّ بخروج المؤسسة العسكرية محاولاً اثبات نيته ببيان 4 يوليو، والذي حال ما تراجع عنه وانخرط في العملية السياسية بعد تدخل مجموعة "الرباعية". كما أنه مَا فَتِئَ يُرددُ بأنه لن يسلم السلطة إلا بتوافق سياسي أو عبر الانتخابات العامة، من جِهةٍ، ولا يسمحُ الجيش بتدخل المدنيين إطلاقاً في شئونه، من جِهةٍ أخرى. ففي خطاباته في القواعد العسكرية (حطاب والمرخيات والمعاقيل) جددّ القائد العام للجيش، بلغةٍ حادة وشديدة اللهجةٍ، تحذيراته للمكونات السياسية من التدخل في شؤون القوات المسلحة، بل وعدّ كل من يتكلم عن الجيش "عدواً، سواء من الإسلاميين أو البعثيين أو الحزب الشيوعي"، على حدِ تعبيرهِ. للمفارقة، حتى في خطاب قائد الجيش في حفل التوقيع على الاتفاق الإطاري نفسه، قال: "يستوجب على السلطة المدنية أن تحترم المهنية العسكرية ولا تتدخل في الشؤون العسكرية الفنية وتترك للقوات المسلحة مسئولية تحديد التفاصيل والأعمال المطلوبة لإنفاذ سياسات وغايات الأمـن الوطني". ونفس الوقت، تغُضُ قيادات الجيش الطرف عن الحركات العسكرية حديثة النشأة والتي يقودها ضباط متقاعدون وقواتها تنتشر في مناطقٍ مختلفةٍ بشمال ووسط السودان، دون إشارةٍ لها في خطابات القائد العام للجيش.
إذن، لا غَرْوَ أن اعترف عضو مجلس السيادة السابق القيادي بقوى الحرية والتغيير، على حدِ قوله بأنّ ” الاتفاق الإطاري بالحسابات يُلبي 85% من مطالب الشارع بما فيها مدنية كاملة للدولة، وسيطرة على أجهزة الشرطة والأمن، وجيش مِهني واحد، وإصلاح النظام الاقتصادي، مجلس عدلي يُصلح النظام العدلي، ومحاكمة قتلة الشهداء، وغيره من المطالب. المطلب الوحيد الما قِدرنا نحققه، بصراحة، هو إبعاد البرهان وحميدتي ومحاكمتهما. نحن العملية السياسية بتاعتنا دي ما فيها الحاجة دي، وعشان نكون صريحين إنو ده ما قدرنا نعمله” (محمد الفكي سليمان،طيبة برس 27 نوفمبر 2022).
كيف تُفكِرُ قيادة الجيش؟
فوق كل هذه الشواهد والوقائع الدالة على تمسك المؤسسة العسكرية بالبقاء في السلطة خلال الفترة الانتقالية، فإنه من المُهم بمكان أن نتعرف على كيف ترى قيادة الجيش نفسها، وتعريفها لدورها في سلطة الدولة. فقد راكمّ الجيشُ كمؤسسة من خلال تجاربه المتعاقبةِ في الحُكمِ خبرةً في اللاشعور بأنه هو الأقدرُ والأحقُ على الحُكمِ، خاصة وقيادة الجيش تطرحُ سؤالاً موضوعياً حول الوزن السياسي للقوى المُطالبةِ بالسلطة في هذه المرحلة في ظلِ عدمِ وجودِ أي تجربةٍ انتخابية تُثبت حجم قواعدها. هذا التراكمُ ولدَّ في قيادة الجيش إحساس راسخ وقوي بأن لا يحكُم أحدٌ من خارج الجيش، وهو ما يؤكده دورهم وأدائهم في الصراع السياسي الماثل. أحد ملامح هذا التوجه تتمظهرُ فيما يُمكن أن نطلق عليه "تبادل الحواضن": فتاريخياً كانت هناك "حاضنة" سياسية تُخرجُ الجيش من الثُكنات إلى الحُكمِ، ومن ثمَّ ينقلبُ على القوى السياسية التي أتت به للسلطة. بينما في الوضع الذي أعقب ثورة ديسمبر أضحت قيادة الجيش هي من تسعى بحثاً عن حاضنة سياسية، لإدراكها أنه من المستحيل أن يحكم الجيش بدون هذه الحاضنة. بمعنى آخر، فإنّ عهد استِعانة المدنيين بالجيش لاستلام السلطة قد انتهي الى مراكمة الجيش لكل خبرات الحكم والتعاطي مع القوى السياسية المدنية (1958 و1969 و1989 و2019)، بل حتى مع الهبات الجماهيرية والثورات، ومع القوى الاقليمية والدولية، وأنّ قيادة المؤسسة العسكرية الأن لا ترى من هو أحق بالسلطة منها، وأنّ الحكمّ لم يعد شأناً مدنياً خالصاً.
فذاكرة المؤسسة العسكرية تختزِنُ بأنّ إبعاد الجيش من السلطةِ لم يكُن وارداً في الفترات الانتقالية السابقة. فذهاب الجيش إلى الثكنات في 1964 و1985 كان بسبب التوافق شبه التام بين القوى السياسية في الحالتين بموجب “ميثاق سياسي”، مرجعيته دستور 1956، ودستور 1956 المعدل في 1964، على التوالي. ومع ذلك، لم يمكثُ الجيش طويلاً في الثُكنات فانقلب على حكم لا يقوم على دستور دائم للبلاد، في 1969 و1989. ومن منحى آخر، كثيرون يضربون المثل ويشيدون بتجربة المُشير سوار الدهب في أنّه أوفى بوعد تسليم السلطة للقوى السياسية المنتخبة في الأجل المضروب. ولو أنّ هذا الأمر صحيحٌ، إلاّ أنّ المجلس العسكري الانتقالي حينذاك، بقيادة المُشير ، تقاسم سلطة الانتقال مع التجمع السياسي-النقابي، وآلت إليه سلطة التشريع في إطارِ “شراكة” دون تسميةٍ مُعلنةٍ.
لا شكّ، أنّ تجربة "الانقاذ"، باعتبارها انقلابٌ عسكري دبرته وخططته ونفذته ومكَّنته حركةٌ حزبيةٌ مدنيةٌ، قد انتهت إلى سيطرة عسكرية ليس على السلطة بل التحكم في التنظيمِ الأب والأم نفسه. هذه هي النقلةُ التي حدثت مع الانقاذ حيث أضحى "العسكري"، هو الأصل والمبتدأ (الساس والرأس). وبِذا أخضع "العسكري المدني" واستوعبه مُتفوقاً عليه بالبيان والعمل (حسب اصطلاح "الجياشة")، فعقود حكم الانقاذ الثلاث شهادة لا يمسها شك بتفوق "العسكريين" على "المدنيين". هذه هي النقلة التي حدثت مع الانقاذ (العسكري هو الاصل والمبتدأ – الساس والرأس)، أخضع العسكري المدني واستوعبه متوفوقا عليه بالبيان والعمل (حسب لغة واصطلاح "الجياشة")، وكانت عقود حكم الانقاذ الثلاث شهادة لا يمسها شك بتفوق العسكريين على المدنيين. ومن المُهِمِ ذكره أن سيطرة الجيش على الأوضاع خلال هذه العقود خلقت للمؤسسة العسكرية والأمنية مكاسباً اقتصاديةً تتضمن التصنيع الحربي وشركات ومؤسسات مالية واستثمارات متنوعة، مما يجعل بقاء قيادة الجيش في السلطة ضروري لحماية هذه المصالح.
قبل أن أختم المقال لا يفوتني أن آتَي على ذْكِرِ أنّ الرِهانَ على المجتمعين الإقليمي والدولي، في إخراج الجيش من المشهد السياسي، رهانٌّ خاسرٌ. في رأيي، أنّ المجتمع لالدولي، مُمثلٌ في المجموعة “الرباعية” والآلية الثلاثية، يقِفُ خلف الاتفاق الإطاري لضمان وجود المؤسسة العسكرية في سلطة الانتقال، بل ولفتحِ قنوات معه (زيارة وزبر الخارجية الإسرائيلي، مثلاً). ومن المهم فهمُ أهدافِ هذا المجتمع في سياقِ سعيهِ لتحقيق قدرٍ من الاستقرار السياسي والأمني في السودان لحماية مصالح دوله، خاصة في ظل إضطراب أمني في المنطقة وبما يخدم أغراض الأمن والسلم الإقليمي والدولي. ستظلُ دول المجتمع الدولي، وظِلها الإقليميي، مجسدة في “الرباعية”، تبتغي بقاءّ المؤسسة العسكرية مُمسكة بالملفات الاستراتيجية والأمنية التي تمِسُ مصالحها، والأمثلةُ تترى: البحر الأحمر، الإضطرابات في أفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا وإرتباطها بالصراع بين أمريكا وروسيا، قضايا الإرهاب والإتجار بالبشر، العلاقة مع إسرائيل، والوضع في القرن الأفريقي. أما التحول الديمقراطي وخضوع الجيش لسلطة مدنية كاملة لا يتصدرُ أولويات دول الرباعية أو غاياتهم الرئيسة، فالفرصة مفتوحة للمؤسسة للعسكرية للبقاء في السلطة حال وقوع معارضة شرسة للحكومة القادمة الناتجة عن العملية السياسيه الجارية، بما يُبعد التقريع على الجيش.
خاتمةُ
في ضوء ما استعرضته من شواهد ودلائل، بما يدعم فرضية هذا المقال، أخلصُ إلى أنّ العملية السياسية الجارية لن تُفضي إلى سلطةٍ مدنيةٍ تَخضعُ لها المؤسسة العسكرية خلال الفترة الانتقالية، ولن يذهبُ الجيشُ إلى الثُكنات ويُسلم السلطةٍ إلاّ لحكومة مدنيةٍ منتخبةٍ، كيفما ومتي ما قامت الانتخابات. لن يتغير توجهُ قيادة الجيش إنْ قامت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بتشكيل الحكومة، أو حتى لو انضمت له “الكتلة الديمقراطية”، أو قوى “التنسيقية الوطنية للتحول الديمقراطي” (الموقعة على مخرجات ورشة القاهرة). فهذه الكتل نفسها تتمسكُ بالوثيقة الدستورية 2019 وتدعوا إلى تعديلها، لا لإلغائها، وطبعا ليس من أجل العودة ل “الشراكة”، طالما لم تكُن موقعةً على الوثيقة ذاتها. ولكن، في رأيي لأن الكتلة تريد أن يبقى الجيش في السلطة، بأي صيغة كانت، لانعدام الثقة في القوى السياسية الأخرى، ولقناعتها بأنّ القوى السياسية مُتشرذمة، ومن غيرِ المتوقعِ أن تُشكِّل حكومة منسجمة تستطيع لوحدها وضع حلول للمشاكل التى تواجه البلاد. وترى الكتلة الديمقراطية، ومَن تُنسق معهم مِن قوى، أنّ وجود الجيش في الفترة الانتقالية باى صورة يتفق عليها يشكل عامل ضمان لتماسك الحكومة وزيادة فعاليتها والتأكيد على تنفيذ البرامج التى يُتفَق عليها.
وقد تلوحُ في الأفقِ ارهاصاتٌ لمشروع سياسي يحفظ للجيش مكاناً في ما تبقى من عمر الانتقال حتى الوصول للانتخابات، تدعمه قوى إقليمية ودولية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّه حتى إذا توفَّقت القوى الداعية للتغيير الجذري في إسقاط الانقلاب عبر الانتفاضة الشعبية كوسيلةٍ وحيدةٍ قادِرة على إبعاد المؤسسة العسكرية، كما تقول، فانتقال السلطة أيضاً يحتاج لانحيازِ الجيش، الذي سيظلُ حاضراً في الفترة الانتقالية، إلاّ إذا اقتحم الثوار القيادة العامة واستلموا السلطة بأنفُسِهم.
أختمُ بأمرينِ مُهمينِ، أولهما: قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي تُدرك جيداً أن الجيش سيظل باقياً حتى نهاية الفترة الانتقالية. فينبغي على هذه القوى، من باب الشفافية وتحري الصدق، أن تُقِر بأن يكون للمؤسسة العسكرية دورٌ مُحددٌ خلال عمر الانتقال بعيداً عن الهيمنة السياسية، وذلك بدلاً عن الإصرارِ والترويج المُضرِ بأنّ العمليةَ السياسيةَ، التي اجترحتها هذه القوى، كفيلةٌ بذهاب الجيش للثُكنات وتأسيس سلطة مدنية تخضع لها المؤسسة العسكرية، وثانيهما، وربما الأهمُ، في رأيي أنّ الطريقةَ المُثلى والصحيحة سياسياً لذِهابِ الجيش إلى الثُكنات هو عقد “المؤتمر الدستوري” ليُخاطبّ ويقررّ في طبيعةِ ودورِ القوات المسلحة ووضعها في دستور البلاد، بجانب نظام الحكم والقضايا التأسيسية الأخري، حتى يخضعُ الجيشُ لسلطةٍ مدنيةٍ بعد انتخاباتٍ حٌرةٍ ونزيهةٍ تُجرى على أساس هذا الدستور، المُستفتى عليه شعبياً. ويتوجبُ الإدراك بأنّ كل الانقلابات العسكرية السابقة في تاريخنا السياسي أسقطت أنظمةَ حُكمٍ لم تكُن مؤسسّةً على دستورٍ دائمٍ.