
الرواية الاولى : رصد
تقرير : احمد صوان – القاهرة الاخبارية
مع تنافس الولايات المتحدة والصين على الهيمنة العالمية، أصبحت الطاقة ساحة معركة جيوسياسية. وبينما رسّخت الولايات المتحدة مكانتها كمورد رئيسي للوقود الأحفوري مثل النفط والغاز والفحم، تُهيمن الصين في المقابل على تصنيع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح والمركبات الكهربائية والبطاريات.
ومع احتدام المنافسة، تتجه الصين سريعًا نحو أن تصبح رائدة عالمية في مجال الطاقة النووية، حيث يبلغ عدد المفاعلات النووية قيد الإنشاء ما يقارب مجموع مفاعلات بقية دول العالم مجتمعة، كما تُشيّد بكين محطات نووية بوتيرة استثنائية.
وبحلول عام 2030، من المتوقع أن تتجاوز القدرة النووية للصين قدرة الولايات المتحدة، التي كانت أول دولة تشطر الذرة لتوليد الكهرباء، وفق تقرير صحيفة “نيويورك تايمز”.
ورغم أن العديد من المفاعلات النووية في الصين مستمدة من التصاميم الأمريكية والفرنسية، فإن الصينيين تغلبوا على تأخيرات البناء وتجاوز التكاليف التي أعاقت الجهود الغربية لتوسيع نطاق الطاقة النووية، حيث حققوا إنجازات في تقنيات الجيل القادم النووية التي أفلتت من الغرب، كما يستثمرون بكثافة في الاندماج النووي، وهو مصدر للطاقة النظيفة لا حدود له.
وفي الوقت نفسه، تسعى الصين جاهدةً للتفوق على الولايات المتحدة في مجال الابتكار التكنولوجي، فقد بنت ما تُسميه أول مفاعل نووي من “الجيل الرابع” في العالم، وهو نموذج مُبرَّد بالغاز يُوفّر الحرارة والبخار للصناعات الثقيلة بالإضافة إلى الكهرباء. كما تسعى الصين إلى تطوير تقنيات تستخدم كميات أقل من اليورانيوم، مثل مفاعلات الثوريوم، أو تعيد تدوير الوقود النووي المُستهلك.
ورغم أن الشركات والمختبرات الأمريكية ظلت في طليعة الابتكار، فقد حذّر تقرير صدر مؤخرًا من أن الصين تتقدم على الولايات المتحدة بما يتراوح بين 10 و15 عامًا في قدرتها على نشر مفاعلات الجيل التالي على نطاق واسع.

الإتقان النووي
في الوقت الحالي، تشهد الطاقة النووية تزايدًا في الاهتمام العالمي، لا سيما مع تصاعد المخاوف بشأن تغير المناخ. ويعود ذلك إلى أن المفاعلات النووية لا تُصدر انبعاثات تسبب الاحتباس الحراري، على عكس محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم والغاز، كما أنها قادرة على إنتاج الكهرباء على مدار الساعة، على عكس طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
في أمريكا، وحتى مع تجاهلها للاحتباس الحراري، تسعى إدارة ترامب إلى مضاعفة قدرة الطاقة النووية أربع مرات بحلول عام 2050، وتأمل في تطوير جيل جديد من تقنيات المفاعلات لتشغيل مراكز البيانات في الولايات المتحدة وبيعها للدول المتعطشة للطاقة في الخارج.
تشير “نيويورك تايمز” إلى أنه، مع ذلك، في سباق الطاقة النووية، تتمتع الصين بميزة واضحة، “فقد اكتشفت كيفية إنتاج المفاعلات بسرعة وبتكلفة منخفضة نسبيًا، وتُجمّع الآن المفاعلات في غضون خمس إلى ست سنوات فقط، أي ضعف سرعة الدول الغربية”.
وفي حين ارتفعت تكاليف بناء المحطات النووية في الولايات المتحدة بشكل كبير بعد ستينيات القرن الماضي، انخفضت إلى النصف في الصين خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم استقرت منذ ذلك الحين، وفقًا لبيانات نُشرت مؤخرًا في مجلة “نيتشر”.
وتعتبر محطات الطاقة النووية الحديثة واحدة من أكثر مشاريع البناء تعقيدًا على وجه الأرض. فبداية من وعاء المفاعل، حيث تُشكّل الذرات، مصنوع من فولاذ متخصص يصل سمكه إلى 10 بوصات، مما يجعله قادرًا على تحمل الإشعاعات لعقود. هذا الوعاء، بدوره، مُحاط بقبة احتواء ضخمة، غالبًا ما يبلغ ارتفاعها ثلاثة طوابق، وعرضها يقارب عرض قبة مبنى الكابيتول الأمريكي، مصنوعة من الخرسانة المسلحة بالفولاذ لمنع التسربات الخطيرة.
ونظرًا لأن المحطات النووية يجب أن تستوفي معايير السلامة الصارمة، فإن آلاف الأميال من الأنابيب والأسلاك التي تشكل المحطة تخضع لمواصفات دقيقة، بالإضافة إلى أن تمويل هذه المشاريع التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات يُعد أمرًا بالغ الصعوبة. ومع مرور الوقت، نجحت الصين في التغلب على هذه التحديات.
ويقول التقرير: “يبدأ الأمر بدعم حكومي كبير، حيث تحصل ثلاث شركات تطوير نووي مملوكة للدولة على قروض ميسرة مدعومة حكوميًا لبناء مفاعلات جديدة، نظرًا لأن التمويل قد يمثل ثلث التكاليف. كما تُلزم الحكومة الصينية مُشغّلي شبكات الكهرباء بشراء جزء من الطاقة من المحطات النووية بأسعار مُيسّرة”.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن الشركات النووية الصينية تبني عددًا قليلًا من أنواع المفاعلات، وهي تفعل ذلك مرارًا وتكرارًا، وهو ما يسمح للمطورين بإجادة وإتقان تصنيعها.

تراجع غربي
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تباطأ بناء المفاعلات النووية في الولايات المتحدة بشكل كبير مع ارتفاع أسعار الفائدة، وتشديد الجهات التنظيمية لقواعد السلامة بشكل متكرر، كما لم تُجدِ المخاوف بشأن التخلص من النفايات النووية، والمخاوف التي أعقبت الانهيار الجزئي لمفاعل في جزيرة “ثري مايل” بولاية بنسلفانيا عام 1979، نفعًا.
في الوقت نفسه، واصل المطورون تجربة تصاميم جديدة للمفاعلات تتطلب مكونات مختلفة، مما أدى إلى تعقيدات جديدة، “وهكذا، اندثرت الطاقة النووية الأمريكية بسبب انعدام القدرة على التنبؤ”، وفق التقرير.
كما برز التناقض جليًا في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما حاولت شركات المرافق الأمريكية إحياء الطاقة النووية بنموذج مفاعل جديد يُسمى AP1000، بمواصفات أمان مُحسّنة. وواجه المطورون صعوبة في التعامل مع هذه التقنية الجديدة، مما أدى إلى تأخيرات متكررة وارتفاع هائل في التكاليف.
وبحلول الوقت الذي اكتمل فيه بناء مفاعلين في ولاية جورجيا العام الماضي، كانت معظم شركات المرافق مترددة في إعادة المحاولة.
في الوقت نفسه، قامت الصين ببناء نماذج AP1000، والتي واجهت هي الأخرى تحديات جسيمة، مثل صعوبات الحصول على مضخات التبريد وارتفاع التكاليف غير المتوقع، “ولكن بدلًا من الاستسلام، درس المسؤولون الصينيون أسباب الخلل وخلصوا إلى ضرورة تعديل التصميم وتطوير سلاسل توريد محلية”.
الآن، تعمل الصين على بناء تسع نسخ أخرى من ذلك المفاعل، المعروف باسم CAP1000، ومن المقرر الانتهاء من جميع هذه المشاريع خلال خمس سنوات، بتكلفة أقل بشكل كبير، بحسب تقرير صادر عن وزارة الطاقة الأمريكية.






