
كتب : المحرر الدبلوماسي
عندما ولد أنور قرقاش في مارس 1959، كان السودانيون قد تمرسوا على الانتخابات البرلمانية التعددية فهم قد انتخبوا مجلسين تشريعيين، كاملي الصلاحيات؛ الجمعية التشريعية في نوفمبر/ديسمبر 1953، ثم البرلمان الثاني في فبراير 1958. وسبقت ذلك تجربة ممتدة في الاقتراع والتنافس على المناصب العامة، منذ تشكيل مؤتمر الخريجين في1938، والذي كان يختار قياداته عن طريق الانتخاب، مرورا بتشكيل الأحزاب السودانية بدء من 1945 ومرحلة مجلس استشاري نصف منتخب ” المجلس الاستشاري لشمال السودان”.
وعندما فاجأ السودانيون العالم في أكتوبر 1964 بنموذج جديد في التغيير السياسي، وإنهاء حكم عسكري سلما عن طريق الاحتجاجات والعصيان المدني لم يكن قرقاش، قد تعلم حتى كتابة الحروف على رمال صحاري دبي. ومن المؤكد أنه لما انتخب البرلمان الثالث في 1965، أنه، وربما حتي البالغين من أفراد أسرته، لم يكونوا يعلمون ماذا تعني كلمات مثل برلمان وانتخابات، وأحزاب سياسية، وحكم مدني.، ولا حتى عندما انتخب البرلمان السوداني الرابع عام 1968.
في ذلك الوقت بدأ بعض المستنيرين من مواطني المشيخات القائمة في ما بات يعرف الآن بدولة الإمارات التفكير في مصير مشيخاتهم، التي لا يتجاوز سكانها بضعة مئات من الآلاف، بعد خروج البريطانيين منها المقرر له عام 1971. ولا بد أنهم كانوا يتساءلون في قرارة أنفسهم ما إذا كانت أي من تلك المشيخات/ الإمارات تمتلك مقومات أن تصبح مجرد بلدية . وقد يكون بعضهم سمع بفكرة الحكم الإتحادي أو الفيدرالية. ومن الواضح أنه لم يكن من بينهم في طول وعرض تلك المشيخات من له خلفية علمية أو مهنية عن الأمر. يقال إنهم اقنعوا أحد شيوخهم بطلب المساعدة من الفقيه الدستوري المصري المعروف عبد الرزاق السنهوري باشا، والذي دلهم بدوره على عالم قانوني ودستوري شاب مم السودان له معرفة واسعة بالأمر، كان هو دكتور حسن الترابي، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي وقتها. وسواء صحت هذه الرواية أم أن الاتصال بحسن الترابي كان مباشرة وبمعرفة ممن كانوا يخططون لمستقبل الدولة المنتظرة، فالثابت أنه هو من قدم النصح لاولئك وعرفهم بتفاصيل ومقتضيات إقامة اتحاد للإمارات وأسهم لاحقا في وضع دستورها عندما استقلت في 1971.
استعانت الدولة الناشئة منذ أول يوم بعدد كبير من الكوادر الإدارية والقضائية والتعليمية والإعلامية لتأسيس هياكلها تقريبا في كل المجالات. ولاشك أن قرقاش بحكم نشأته في دبي عرف كمال حمزة أشهر من قاد بلدية دبي لعقود من الزمان. ومن المحتمل جدا أن يكون قد تلقى بعضا من تعليمه على أيدي معلمين سودانيين.
لم تعرف الإمارات التعليم الجامعي إلا في 1977، عندما افتتحت جامعة الإمارات بالعين بأربع كليات نظرية تقبل عددا محدودا جدا من الطلاب. وربما بسبب ذلك، ولطموح قرقاش، الذي ينتمي لأقلية الهولة ذات الأصول الإيرانية، في أن يكون له شأن في المستقبل، توجه للدراسة في أمريكا.
وقتها كان اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، التي كان عمرها حينئذ ثلاثة أرباع قرن، أحد أهم وأقدم الكيانات النقابية، في البلاد، وظل يقود الحراك الشعبي المدني لتحقيق العدالة والحرية، لذا كانت كل الحكومات المتعاقبة تخشاه.
السؤال هو هل رعا قرقاش الذي أصبح استاذا في جامعة الإمارات يدرس العلوم السياسية بين ١٩٩٠ و١٩٩٥، إتحاد طلاب الجامعة ليساهم في إعدادهم للحكم المدني الديمقراطي وهل يوجد أصلا اتحاد للطلاب؟ وهل كان يناقش في محاضراته التحديات التي تواجهها الحركة النقابية ومنظمات المجتمع المدني في الإمارات؟ ماذا ترى كان يدرس طلابه عن حكومة وسياسة الإمارات..وهل شرح لهم ماذا يقصد بالمجتمع المدني والديمقراطية وتداول السلطة والحريات الأساسية بما في ذلك حرية التعبير.. وحرية تكوين الأحزاب والأجسام المطلبية؟
هل شرح لهم لماذا لا تزال بلاده، بعد خمسين عاما من استقلالها في مرحلة ” المجلس الاستشاري لشمال السودان” قبل ٨٠ عاما الذي تعين الحكومة نصف أعضائه ويختار “الأعيان ” النصف الآخر، دون أن تكون له صلاحيات حقيقية؟
طوال فترة الوالد المؤسس لدولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان (1971- 2004) لم يتول قرقاش أي منصب عام ، رغم أنه كان يحمل درجة الدكتوراة من جامعة كامبردج البريطانية منذ عام ١٩٩٠. ربما يعود ذلك لكونه من الأقليات، التي ظل البعض يجادل وقتها في حقها بالمواطنة الكاملة. أو أن المعايير التي كان الشيخ زايد يختار بها رجاله لا تنطبق علي قرقاش.
لكن مع صعود محمد بن زايد، الذي سرعان ما أصبح الحاكم الفعلي للدولة، عقب وفاة والده، في ظل مرض الرئيس الثاني للدولة، أخيه غير الشقيق خليفة بن زايد- تكثر الروايات عن اسباب هذا المرض- أصبح من هم على شاكلة قرقاش مرغوبين بشدة في بلاط MBZ، كما يعرف حاكم الإمارات في الغرب. وصار أمثال محمد دحلان، قائد الأمن الفلسطيني السابق المتهم بالتورط في اغتيال قائده ورمز القضية الفلسطينية ياسر عرفات، ولاحقا عبد الرحمن شلقم، وطه عثمان الحسين وحمدوك ومجموعته وغيرهم من المجنسين من بقايا ومجندي مخابرات مختلف دول العالم هم أصحاب الحظوة لدى حاكم أبوظبي، أو المافيا الحاكمة، كما سماها الفريق أول ياسر العطا، وكما قدم لمحة عن ذلك التحقيق الاستقصائي لنيويورك تايمز حول منصور بن زايد ، شقيق MBZ ومالك نادي مانشستر سيتي، نهاية يونيو الماضي.
في هذه الأجواء كان طبيعيا أن يصعد نجم قرقاش، وأن يختار له الدور الذي يليق به. فبعد فترة قصيرة قضاها وزيرا لشؤون المجلس الوطني (2006-2008) أصبح وزير دولة للشؤون الخارجية، واستمر كذلك حتى 2021، عندما سمي مستشارا دبلوماسيا لمحمد بن زايد. طوال هذه الفترة برز قرقاش ممثلا لأسوأ ما في السياسة الخارجية الإماراتية ومؤامراتها في المنطقة. أطلقه بن زايد ضد كل من يريد أن يتآمر عليه أو يهاجمه حتى من حلفائه حكام الخليج الآخرين، لأنه يعلم أنهم يترفعون عن الرد عليه ومجاراته.
جسد قرقاش حقيقة أن نظام أبوظبي تحت قيادة محمد بن زايد أضحي ” ارتكاز متقدم” -outpost- لإسرائيل، واضطلع بالأدوار التي يستنكف عنها ذوو الاستقامة واحترام الذات. برز لسانا “زفرا “يطلقه حكام أبوظبي ومن هم وراءهم ضد من يستهدفونه بمؤامراتهم التي لا تنتهي.
في يونيو 2017 كان هجوم قرقاش على قطر لاستضافتها القيادة السياسية لحركة حماس وأن ذلك يهدد كل المنطقة ويسهم في نشر الفكر المتطرف إيذانا ببدء مقاطعة وحصار قطر في أكبر أزمة داخلية يتعرض لها مجلس التعاون الخليجي، لم يتعاف منها حتى الآن. بل أن حملته التحريضية طالت السعودية نفسها، قائدة دول الخليج والركن الركين للاستقرار السياسي في المنطقة بأسرها، إذ زعم في نفس العام أن الرياض لا تفعل ما يكفي لمنع تمويل الإرهاب، في سعي لابتزاز الشقيقة الكبري.
كانت سمعته كسمسار للأزمات، وبوق لإسرائيل تسبقه..لذا اعترض محتجون سيارته في وسط لندن في أكتوبر 2017 وهتفوا ضد ” قرقاش عميل إسرائيل”.
ساهم في إشعال الحرب الأخيرة بين إسرائيل، مدعومة بامريكا، وإيران، وذلك عندما نقل رسالة للحكومة الإيرانية من واشنطن، قصدت منها الأخيرة أن تسهم في حل دبلوماسي للازمة. لكن إيران رأت في إختيار قرقاش لإبلاغ والطريقة التي نقلها بها، استفزازا لها مما أدي لاشعال الحرب.
يكثر قرقاش هذه الأيام من مواعظه عن ضروة الديمقرا طية والحكم المدني في السودان..ولتكون مواعظه فعالة عليه أن يجيب علي هذه الأسئلة:
ماهو مصير ١٣٣من النشطاء والأكاديميين الإماراتيين الذين وقعوا علي عريضة ٣ مارس ٢٠١١ للمطالبة باصلاحات ديمقراطية ودستورية في والسماح للاماراتيين بانتخاب كامل أعضاء ما يسمي بالمجلس الوطني الإتحادي؟ وهل أفرج عن أي منهم بعد أكثر من ١٤ عاما علي اعتقالهم، حتي ولو من الذين قضوا فترات السجن التي تجاووت ١٠ سنوات؟
وكم من أولئك تجري محاكمتهم حاليا بتهم جديدة، رغم أنهم لم يبرحوا السجن منذ ذلك الوقت، ليتركبوا ما افهموا به؟
كم من هؤلاء مات في السجن؟ وكم منهم سحبت منه الجنسية الإماراتية رغم انهم من أهل البلاد الأصليين؟
ماهو مصير ” شباب المنارة” من السلفيين، والذين اعتقلوا عام ٢٠١٣لأنهم كانوا ينظمون محاضرات ودروس إسلامية، وحوكموا عام ٢٠١٦، وعوقب عدد منهم بالسجن المؤبد والبقية بفترات سجن تتراوح بين ٣ إلي ١٠ سنوات؟
من قتل الناشطة الإماراتية لينا الصديق، المدير التنفيذي لمنظمة قسط لحقوق الإنسان، بلندن عام ٢٠٢١، علما بأن والدها معتقل ضمن موقعي مذكرة ٣ مارس ٢٠١١؟
لماذا اتهمت لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان البريطاني الإمارات في أغسطس من هذا العام بممارسة القمع العابر للحدود علي اراضي بريطانيا، بما ذلك ” الإرهاب الرقمي” ضد مواطنيها المقيمين في بريطانيا؟
ما هي اسباب التراجع المستمر في موقع الإمارات في مؤشر الحريات الصحفية ، وهي أصلا في أسفل القائمة: إذ جاءت في الموقع رقم ١٦٤- من أصل ١٨٠ دولة- وكانت العام الماضي رقم ١٦٠ وفي عام ٢٠٢٢كانت رقم ١٣٨؟
عندما يستطيع أن يجيب قرقاش علي أي من الأسئلة أعلاه، والتي لم تتضمن أي ذكر لدور أبوظبي في حرب الإبادة التي تشنها المليشيا التي تتبع لها علي السودانيين، يمكنه أن يتحدث عن السلام والديمقراطية والحكم المدني.






