
في أعقاب واحدة من أكثر النزاعات دموية في تاريخ السودان، بدأت ملامح تحوّل لافت ترتسم على خارطة الدولة السودانية. لم يأتِ هذا التحوّل عبر بيان أو إعلان خارجي، بل عبر وقائع على الأرض رسمت معادلة جديدة: تفوّق ميداني للقوات المسلحة، وعودة مؤسسات الدولة للعمل، وإرادة سياسية تُنضج مشروعًا انتقاليًا وطنيًا بتوافق داخلي ودعم خارجي.
استعادة الجيش السوداني للخرطوم في مارس 2025 شكّلت لحظة مفصلية قلبت الموازين. أُخرجت الميليشيات من المواقع الحيوية، وعادت الحياة تدريجيًا إلى المدن، وتحرّكت وحدات الدولة غربًا نحو دارفور وكردفان، حيث أُعيد فرض النظام في النهود، الفاشر، وجنوب زالنجي. هذا التقدم لم يكن هدفًا في ذاته، بل خطوة ضرورية لإطلاق معادلة بناء جديدة، تستند إلى فكرة واضحة: أن السلام يجب أن يُصنع من الداخل، لا يُفرض من الخارج.
ومن هنا، جاءت خارطة الطريق التي قدّمها الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبر مندوبه إلى الأمم المتحدة في 10 مارس 2025 ، والتي تضمّنت وقفًا مشروطًا لإطلاق النار، وفتح الممرات الإنسانية، وتشكيل حكومة مستقلة، والشروع في حوار وطني شامل. وقد وجدت هذه الرؤية صدىً واسعًا، حيث أعلنت روسيا والصين دعمها الصريح لها خلال جلسة مجلس الأمن بتاريخ 27 يونيو 2025 ، واعتبرتا أنها السبيل الواقعي لوقف النزاع، واستعادة السيادة السودانية على مؤسساتها.
لكن ما يميز هذه اللحظة ليس فقط توافق الخارج، بل ما بدأ يتحقق على مستوى الداخل. فتعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا لمجلس الوزراء أعاد الزخم للعملية السياسية، وأكّد أن السودان بدأ فعليًا مسار التحول الديمقراطي. غير أن هذا المسار لا يمكن أن يُكتب له النجاح إلا بوجود توافق وطني واسع، يشمل القوى المدنية والعسكرية والاجتماعية، ويتجاوز الحسابات الضيقة والانتماءات القَبَلية لصالح فكرة واحدة: أن الدولة السودانية فوق الجميع.
وفي هذا الإطار، تبقى فرصة السلام مفتوحة أمام كل من حمل السلاح. لكن بشروط واضحة لا التباس فيها: إذا نبذت هذه القوى العنف، وتخلّت عن ارتباطها بالتنظيمات المسلحة الخارجة عن القانون، وتحررت من وثاق عصابة آل دقلو الإرهابية، وأتت إلى طاولة الوطن بإرادة صادقة وأيدٍ بيضاء للتعمير… فإن أبواب المشاركة ستُفتح لها في مستقبل السودان، لا كغنيمة، بل كمساهمة في بناء وطن يسع الجميع. فالخيار أمامها ليس الاستسلام، بل الانخراط بإخلاص في مشروع السلام الوطني.
إن السودان اليوم أمام لحظة فارقة: من موقع الدولة التي كانت على وشك التلاشي، إلى أمة تعيد تنظيم نفسها وفق خارطة وطنية، ودعم دولي، ورؤية مدنية واعدة. وكل ذلك، لا يُبنى بالشعارات، بل بالتوافق الدستوري، والعدالة الانتقالية، والحوار الذي لا يستثني أحدًا ولا يعفو عن الجرائم باسم السياسة.
السودان لم يعد يسير نحو المجهول، بل بدأ طريقًا جديدًا، صعبًا نعم، لكن مُمكنًا. ومن أراد أن يكون جزءًا من المستقبل، فليضع السلاح، ويلتحق بطاولة البناء.
٢٩ يونيو ٢٠٢٥