السودان : وتفكيك السردية… عندما تُغلَّف التدخلات بلغة “القراءة الهادئة لقرقاش!؟

ليس مربكاً فقط أن يتحدث د. أنور محمد قرقاش عن السودان عبر مقاله بصحيفة الاتحاد يوم ٢٣ ديسمبر الجاري، بل مقلقٌ سياسياً وأخلاقياً. فالرجل الذي تُوظّفه الإمارات اليوم لمهمةٍ يبدو أنه إما لا يدرك أبعادها وتداعياتها وعاقبتها، أو أنه يفترض – عن قصد او جهل أو استخفاف – أن شعب السودان وقيادته ونخبه لا يملكون من الوعي ما يكفي لتمييز التناقض الفاضح بين الخطاب والواقع ما يجهل هو!؟.
فتارة يُقدَّم قرقاش بوصفه مستشاراً دبلوماسياً لرئيس الدولة، وتارة خبيراً استراتيجياً، ثم يظهر في مقاله الأخير كأنه أكاديمي محايد يقدّم “قراءة هادئة”، في تناقضٍ بيّن مع موقعه الوظيفي، ومع حجم ومسؤولية الدور الذي يؤديه فعلياً في واحدة من أعقد وأدميت حروب المنطقة. يندرج بوضوح في هذا الإطار: محاولة لإعادة صياغة الدور الإماراتي في السودان بلغة استراتيجية ناعمة، تتجاوز – أو تتجاهل عمداً – سلسلة واسعة من الشواهد والإدانات والاتهامات الموثقة والتقارير الصادمة و الفاجعة لمجلس حقوق الإنسان ومقررياته المتعددة.
هذا التقلّب في الصفات ليس تنوعاً معرفياً، بل هروبٌ من المساءلة، وإفلات من العقوبة وجبر الضرر، ومحاولة للانتقال بين الأدوار كلما انكشفت زاوية من زوايا الحقيقة. وهو أشبه بمن يحاول تغطية غُبن الشمس بيده أمام وقائع دامغة، وتقارير مهولة، وتحقيقات صحفية دولية، وشهادات خبراء، واتهامات موثقة قُدِّمت إلى أعلى منابر الشرعية الدولية، وحازت على الادانات والتصنيف وعلى رأسها مجلس الأمن.
أولاً: “القراءة الهادئة” حين تُستخدم لإخفاء الوقائع
يدعو قرقاش إلى قراءة هادئة “خارج ضجيج الحملات”، لكنه يتجاهل أن ما يصفه بالضجيج ليس سوى تراكم غير مسبوق من الشواهد الموثقة قوامها الدمار الشامل والإفقار الكامل لدولة وشعب ومقدرات وتاريخ أمة لن تمحى.
فالأسئلة حول الدور الإماراتي في السودان لم تنشأ من فراغ، ولم تُصنع في غرف معتمة، بل جاءت نتيجة:
• تقارير صحفية استقصائية في كبريات الصحف العالمية وبأحدث التقنيات؛
• إدانات متكررة من منظمات إنسانية وحقوقية دولية؛
• شهادات خبراء مستقلين، وآخرهم كاميرون هدسون في جلسة مجلس الأمن بتاريخ 22 ديسمبر الجاري ؛
• ثم الشكاوى الرسمية التي تقدمت بها حكومة السودان إلى مجلس الأمن، في سابقة سياسية ودبلوماسية مرتين بالغة الدلالة والحيثيات ، وعين الله لا تنام!؟.
القراءة الهادئة لا تعني تجاهل الأدلة، ولا تعني إعادة صياغة الوقائع بلغة ناعمة تُفرغها من مضمونها او الهروب من استحقاقاتها التي خلفتها حرب الوكالة وآثارها الممتدة في شتى المناحي.
ثانياً: أسطورة “التحول الجيو-اقتصادي”
يقدّم المقال بصلف ما يسميه التحول الإماراتي من الدور العسكري إلى “الجيو-اقتصادي” بوصفه خياراً عقلانياً للاستقرار. غير أن التجربة السودانية – كما غيرها – تُظهر أن هذا التحول لم يكن انسحاباً من الصراع، بل انتقالاً إلى أدوات أكثر تعقيداً وأقل شفافية مسرحها العديد من المناطق ويبقي السودان ابرز تجلياتها:
المال، السلاح المسيرات المرتزقة ،الشركات، شبكات الإمداد، ووكلاء محليين يواصلون الحرب نيابة عن داعميهم وواجهات بتنسيق واصرار.
هذا النمط لم يعد محل جدل أكاديمي، بل موثق في تقارير دولية وتحقيقات إعلامية، ويُعد أحد الأسباب الرئيسية في إطالة أمد الحرب وتحويلها إلى اقتصاد دم مفتوح لن يسقط بالتقادم والعدو الذي ينشده قرقاش ربيبكم وصناعتكم.
ثالثاً: الحياد المزعوم وتكافؤ الزيف
يصرّ قرقاش على توصيف الجيش السوداني و«الدعم السريع» كطرفين متكافئين في نزاع مسلح. هذا التوصيف، في حد ذاته، انحياز مقنّع.
فـ«الدعم السريع» مليشيا متمردة متهمة بارتكاب:
• جرائم تطهير عرقي في دارفور وغيرها وعنف جنسي وجنساني وابادة جماعية؛
• مجازر بحق المدنيين في الجزيرة والخرطوم وأغلب مدن وأرياف البلاد؛
• انتهاكات موثقة صنّفتها منظمات دولية كجرائم حرب وضد الإنسانية.
المساواة بين مؤسسة دولة قائمة – مهما بلغت انتقاداتنا لها – وبين مليشيا خارجة عن القانون، ليست واقعية، بل طمسٌ متعمد للفروق القانونية والأخلاقية والقيمية.
رابعاً: فزاعة “الإخوان” كتبرير سياسي
أخطر ما في خطاب قرقاش هو إعادة تدوير ثنائية “العسكر أو الإسلاميين”، وكأن السودان لم ينجز ثورات شعبية عظيمة قادتها قوى مدنية مستقلة عبر تاريخها الطويل لا توازي هذا المسخ المشوه الذي ولدته ديسمبر ٢٠١٨-أبريل ٢٠١٩ برعاية الإمارات وسندها وسفيرها الجنيبي.
هذا التبسيط:
. الذي يتجاهل غرف دولته ودعايتها الماكرة
• يُبرر دعم واقع المليشيات؛
• ويُسقط حق السودانيين في بناء دولة مدنية دون وصاية؛
• ويحوّل مأساة وطن بكوارثها إلى معركة أيديولوجية بفزاعة سخيفة تخدم حسابات إقليمية ومصالح دولته ومن يقفون خلفها وكأن الضحايا ارقامًا بلا وجهة، لن تبلغ مرادها بحول الله مهما استطالت يد الدعم الغاشمة وامتد بلاء حرب الوكالة فالسودان الي انتصار وتحرير.
لقد جُرّبت هذه الوصفة في أكثر من بلد، وكانت نتيجتها واحدة: تفكيك الدولة باسم محاربة خصم سياسي، وبلادنا ستنجح في دحر هذه المغامرة والايام دول!؟.
خامساً: الرباعية… ومشكلة التطبيق لا النص
لا يرفض السودانيون مبدأ المبادرات الاقليمية والدولية، ولا الحوار لكنهم يرفضون انتقائية تطبيقها وفرض يدها وقدراتها وهذا التسطيح الذي ترومه الإمارات عبر صهوة الرباعية المزعومة وهي واجهة مصنوعة لم نطلبها.
فالمسار السياسي لا يمكن أن ينجح:
• إذا لم يُسبق بتفكيك واقع المليشيا؛
• وإذا أزيح الخيار الوطني وفُرض الحل من الخارج دون ضمانات وطنية؛
• وإذا استُخدم كأداة ضغط على طرف واحد دون الآخر والسلاح والمال يغذي التمرد والقتل وضحاياه يفرح العدو ورعاته.
السلام لا يُصنع بتوازن ضعف، بل بتصحيح الخلل في ميزان القوة غير المشروع، والتدخل التتاري بالغزو الخارجي، وتحدي المبادئ الدولية.
سادساً: العمل الإنساني لا يُلغي المسؤولية السياسية
لا أحد ينكر المساعدات الإنسانية، لكن العمل الإنساني لا يمنح حصانة سياسية، ولا وسيلة تبييض لشرعنة العنف وفرض واقع الأزمة بالقوة الغاصبة .
فلا يمكن لدولة أن:
• تدّعي دعم وقف الحرب؛
• ثم تتجاهل – أو تُتهم – بلعب دور في استمرار شروطها، وتظن أن يدها إنسانية وهي موغلة في الدماء والعنف والابتزاز.
القانون الدولي لا يقيس النوايا، بل الأثر بشواهده الشاخصة ضد الإمارات.
خاتمة
المشكلة ليست في ضجيج الحملات، التي تغض مضجع الدولة المعتدية وستستمر لمزيد من الفضح ، بل في عجز الخطاب عن مواجهة الحقيقة على نحو ما يفعل قرقاش عندما يجير CNN او اسكاي نيوز او ادوات وأبواق سياسية .
والسودان لا يحتاج إلى مستشارين متعددي الألقاب، على. نحو ما يفعل التمرد من واجهات عسكرية ومدنية جمعها في (تأسيس وصمود ) بمال الامارات وسلطانها، ولا إلى قراءات مدلسة تُبدّل لهجة الصوت وتتجاهل الضحايا والدماء وتُبقي جوهر السياسة على فشلها ، بل يحتاج إلى:
• احترام سيادته؛ وعزة وكرامة شعبه
• وقف أي دور يطيل أمد الحرب؛ في معظم جوارنا ومؤسسات الاقليم
• حل عادل بمسار سياسي منصف يُصاغ بإرادة السودانيين واجندتهم لا فوق رؤوسهم بأداة وآلة لحمتها وسداها الإمارات.
أما الخطاب الذي يناقض نفسه، وتقتله الحقائق والشواهد،ويتنقل بين صفة وأخرى، متوهما الحجة والنصر،فلن يصمد أمام ذاكرة الشعوب. ودماء أمتنا ومقدراتها ليست رخيصة تركن الي هدوء زائف تقمصه من يدعم القتلة والغاصبين وجلبة المرتزقة بقلم دموي يقطر من يدك يا قرقاش!؟.
——————
٢٧ ديسمبر ٢٠٢٥م



