الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

السودان لا يركع… والشعب لا ينسى

محمد الحاج

منذ عام 2015، بدأ المتمرد حمدتي في إطلاق تهديداته المبطنة والمعلنة ضد الشعب السوداني، مستخدمًا نفوذه العسكري ومليشياته كأداة للترهيب. ومع كل منعطف سياسي، كان يظهر بخطاب يتوعد فيه من يعارضه، ويهدد من يطالب بالحرية والعدالة، حتى بلغ ذروة وعيده بعد ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام البشير، حين بدأ يرى في التحول الديمقراطي خطرًا على سلطته ونفوذه.

بعد الثورة، بدلًا من أن يكون جزءًا من بناء الدولة الجديدة، اختار المتمرد حمدتي طريق التهديد والتخريب. ورغم منحه موقعًا رفيعًا في مجلس السيادة، ورئاسة لجان التفاوض والاقتصاد، لم يتوقف عن إطلاق تصريحات عدائية ضد القوى المدنية، متوعدًا الشعب بـ”يوم أسود من قرن الخروب”، إن هم أصروا على الوثيقة الدستورية التي قيدت طموحه السلطوي بعد كشف عمالة قحت التي تجاوزت كل الحدود بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق وصولا الي (يا الإطاري يا الحرب)

وفي الإعلام الرسمي، المرئي والمسموع والمقروء، لم يخفِ نواياه. قالها صراحة: “سنجعل من بيوتكم وممتلكاتكم مأوى للقطط والجرذان والزواحف”. وفي صباح 15 أبريل، نفّذ وعيده، وأطلق العنان لمليشياته في العاصمة ومدنها الثلاث، ومحلياتها السبع، وفي دارفور والجزيرة، والوسط، والجنينة، ونيالا، والضعين، مخلفًا دمارًا شاملًا، وقتلًا ممنهجًا، وخطفًا ونهبًا وسلبًا، ودمارًا للبنية التحتية في ثلثي السودان.

النتيجة كانت كارثية: أكثر من 11 ألف قتيل، و6 ملايين نازح، فرّوا من الموت ليواجهوا الذل والجوع والخوف والتشرد. هؤلاء الناجون، الذين تقطعت بهم السبل بين الصحارى والبحار، يبحثون اليوم عن وطن بديل، بعدما فقدوا كل شيء. التعليم انهار، والصحة غابت، والأمان أصبح حلمًا بعيدًا. الأطفال لم يعودوا ينامون دون فزع من أصوات الرصاص والدانات، والمشاهد التي رأوها ستبقى محفورة في ذاكرتهم إلى الأبد.

هل هذه هي سماحة السودانيين؟ هل هذا هو القانون الذي يُفترض أن يحميهم؟ لقد شفق العالم علينا قبل أن نشفق نحن على أنفسنا، وأدان ما جرى من استباحة ومرارة.

ثم يخرج علينا من يروّج لفكرة أن الحركة الإسلامية هي من أشعلت الحرب، وأنه كان بالإمكان تفاديها. لا يا سادة، من أشعل الحرب هو من توعد الشعب بالانتقام منذ سنوات، من شكك في قدرة الجيش على المواجهة، ومن تحالف مع مليشيات الجنجويد ضد شعبه وجيشه. حتى وإن كان مختطفًا كما يدّعي بعض العملاء، فإن من يروج لخطاب “طرفي الصراع” و”حرب الجنرالين” يتجاهل الحقيقة: هذه ليست حربًا بين جنرالين، بل حرب ضد شعب بأكمله.

وإذا كانت القوى السياسية التي تنادي اليوم بإيقاف الحرب هي بالفعل قوى وطنية، فعليها أن تعلن بوضوح لا لبس فيه إدانتها لمليشيات المتمرد حمدتي، وأن تعترف بمسؤولية شركائها الذين عقدوا التفاهمات والتحالفات مع هذه المليشيات، وساهموا في تمكينها سياسيًا وعسكريًا. فالصمت أو التبرير هو مشاركة في الجريمة، لا أقل.

ومن يقول إنه شهد حرب الجنوب أو صراعات الحركات المسلحة، ويحاول تشبيهها بما يعصف بالسودان اليوم، فهو بالتأكيد مخطئ في كل تقديراته. هذه الحرب تختلف جذريًا عن سابقاتها، لأنها ليست حربًا على أطراف محددة، بل حرب على شعب بأكمله. إنها حرب مدفوعة بقوى خارجية تسعى لتحقيق أجنداتها عبر هذه المليشيات، وبدعم من قوى سياسية داخلية تساندها وتغطي على جرائمها.

إنها حرب وجود، والشعب السوداني لا ينسى من خان، من قتل، من شرّد، ومن باع الوطن بثمن بخس.


٢٢ اغسطس ٢٠٢٥ م

اترك رد

error: Content is protected !!