الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

السودان: قلب الجغرافيا ومخزن الموارد في الحرب الكبرى!؟

السفير د. معاوية التوم


مقدمة


لم يعد السودان مجرد خبر عابر في نشرات الأنباء، ولا مجرد ساحة حرب داخلية مفروضة عليه في سياق صراع الإرادات والموارد الذي تمارسه بعض القوى الدولية النافذة عبر وكلاء من خارج الحدود.. إن ما يجري اليوم على أرضه أكبر بكثير: إنه فصل من فصول “الحرب الكبرى على الموارد”، حيث تتقاطع أطماع الداخل مع مطامع الخارج، وتتكشف أهمية بلد يجمع في جغرافيته وثرواته ما يجعل السيطرة عليه هدفًا استراتيجيًا يتجاوز حدود الإقليم إلى خرائط القوى العالمية.ومطامعها المعلنة.

السودان ليس فقيرًا كما يُصوَّر، بل غني إلى حد أنه تحوّل إلى “جائزة جغرافية” تتنافس عليها القوى الكبرى والإقليمية. فمن البحر الأحمر الذي يشهد مرور شرايين التجارة العالمية، إلى المعادن النفيسة الدفينة في باطن أرضه، ومن الأراضي الزراعية الخصبة التي لم تُستغل إلا جزئيًا، إلى الثروة الحيوانية الهائلة التي تُعد الأكبر في إفريقيا والعالم العربي ؛ جميعها تجعل السودان في قلب معركة عالمية تتجاوز منطق الانقلابات والنزاعات الداخلية.

اليوم، السؤال الجوهري لم يعد: من يحكم السودان؟ بل: من يملك ثرواته؟ ومن يتحكم في موقعه؟ ومن يوظف موارده لصالح شعبه أو لحساب الآخرين؟

1-الموقع الجيوستراتيجي: نافذة على البحر وقلب القارة

    الساحل السوداني الطويل، الممتد لأكثر من 800 كيلومتر على البحر الأحمر، ليس مجرد شريط مائي، بل أحد أهم الأصول الاستراتيجية للبلاد. فالموانئ السودانية تقع على طريق التجارة الدولية التي تربط آسيا بأوروبا، وتشهد مرور ما يقارب 12% من حركة التجارة العالمية. وفي عالم تتصاعد فيه أهمية الأمن البحري وممرات الطاقة، والقواعد العسكرية ليصبح السودان لاعبًا لا يمكن تجاهله.

    إلى جانب ذلك، يتوسط السودان القارة الإفريقية، محاطًا بسبع دول، ما يجعله معبرًا طبيعيًا بين شمال القارة وجنوبها، وبين شرقها وغربها. هذا الموقع يفسر جزئيًا شدة التنافس الخارجي على النفوذ فيه، حيث تتقاطع مصالح عربية وإفريقية وغربية وآسيوية على أرضه.

    2-المعادن الاستراتيجية: كنوز خاملة في باطن الأرض

      بعيدًا عن الذهب، يضم السودان معادن أخرى ذات قيمة اقتصادية واستراتيجية عالية:
      • النحاس: يُعد من ركائز الصناعات الكهربائية والالكترونية.
      • الكروم والمانغنيز: عنصران أساسيان لصناعة الفولاذ والمعادن الثقيلة.
      • الحديد: باحتياطيات ضخمة قادرة على إمداد الصناعات الإقليمية.
      • اليورانيوم: مورد حساس يفتح الباب أمام حسابات الطاقة النووية.
      • العناصر الأرضية النادرة: التي تتنامى أهميتها في صناعة البطاريات، الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية.

      هذه الموارد وغيرها تجعل السودان جزءًا من “معركة المعادن الحرجة” التي تشهدها الأسواق العالمية اليوم، حيث يسعى الغرب والشرق لتأمين مصادر بديلة بعيدًا عن الاحتكار.

      3-الزراعة والمياه: إمبراطورية خضراء محتملة

        إذا كان الذهب والمعادن يثيران شهية المستثمرين، فإن الزراعة والمياه تثيران شهية العالم بأسره.
        • يمتلك السودان أكثر من 200 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة، بينما يُزرع منها أقل من ربعها فقط.
        • تغذيه شبكة مائية هائلة من نهر النيل وروافده، إضافة إلى مخزون جوفي كبير لم يُستغل بالكامل بعد.
        • هذه الإمكانات تجعل السودان مرشحًا ليكون “سلة غذاء العالم”، في زمن يشهد شحًا متزايدًا في الغذاء وارتفاع أسعار الحبوب والزيوت واللحوم.

        4-الثروة الحيوانية: ذهب من نوع آخر

          يمتلك السودان ثروة حيوانية تُقدر بأكثر من 100 مليون رأس من الأبقار والإبل والضأن والماعز.
          هذه الثروة، إذا ما أُحسن استغلالها، يمكن أن تجعل السودان مركزًا رئيسيًا لإمداد الأسواق العربية والإفريقية باللحوم والألبان والجلود. لكن ضعف البنية التحتية، غياب التصنيع الحيواني، والنزاعات المتكررة أعاقت الاستثمار الأمثل لهذه الثروة، وادارة هذه الموارد الضخمة واحكام السيطرة الوطنية عليها بما يعزز موارد الدولة واحتياجها للعملة الحرة .
          خاتمة إنذارية

          إن ما يجري في السودان ليس مجرد حرب بين جنرالين كما تسعى السردية الماكرة لتسويقه، ولا أزمة عابرة يمكن تجاوزها بالوقت؛ إنها معركة على بقاء وطن بأكمله. الذهب، الأرض، المياه، البحر، والمعادن النادرة، كلها ليست مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل وقود لحرب تُدار بدماء السودانيين وعلى حساب مستقبل أجيالهم.
          إذا لم يستفق السودانيون اليوم قبل الغد، ويبنوا مشروعًا وطنيًا يضع مواردهم في خدمة شعبهم لا في خدمة الآخرين، فإن السودان لن يخرج من دائرة الاستنزاف. كل يوم يمر بلا رؤية موحدة يزيد من فرص القوى الأجنبية في فرض أجندتها، ويضاعف خسائر البلاد التي كان يمكن أن تكون سلة غذاء العالم ومركزًا استراتيجيًا في إفريقيا والعالم العربي.
          لقد أصبح السودان الآن في عين العاصفة. إما أن ينهض أهله بمسؤوليتهم التاريخية ليحوّلوا هذه الموارد من لعنة إلى نعمة، أو يتركوا مصير بلادهم رهينة للعبة أمم لا ترحم، حيث يتحول الإنسان السوداني نفسه إلى “مورد” يُستنزف كما تُستنزف أرضه ومياهه وثرواته.

          السودان يقف على حافة مفترق طرق: إما أن يكون وطنًا حرًا بثرواته لأهله، أو أن يبقى مجرد ساحة مفتوحة لأطماع لا تنتهي. والوقت يضيق… والإنذار صار جليًا لكل من يقرأ الواقع السوداني اليوم ، وساحة الحرب الكبرى القائمة منذ العام ٢.٢٣ تقف شاهدا بتبعاتها على الإنسان و كافة مناحي الحياة.
          ————
          ٤ سبتمبر ٢٠٢٥م

          اترك رد

          error: Content is protected !!