السودان بين قبضة القبيلة وأفق القومية _ (نحو وعيٍ وطني يحرّر المستقبل)

لا ينهض وطنٌ تشرذمه العصبيات، ولا تستقيم دولةٌ تُختطف إرادتها بين قبائل وجهات ومناطق تتنازع النفوذ والامتياز. لقد دفع السودان أثمانًا باهظة بسبب هذا التشظي، حتى غدا الانتماء القبلي ــ وهو في أصله رابطة اجتماعية طبيعية ــ يتحوّل تدريجيًا إلى بنية صلبة تُقيد الوعي، تعيق التطور والتنمية، وتحدّ من تشكل هوية وطنية عليا قادرة على حمل مشروع الدولة. وفي لحظة تاريخية مفصلية كالتي يعيشها السودان اليوم، يصبح تفكيك هذه البنى المتكلسة ضرورة وجودية، لا خيارًا فكريًا، إذا أردنا أن نخرج من مأزق الانقسام ونبني وطنًا واحدًا يتّسع للجميع.
ضمن هذا السياق، تبرز أسئلة ملحّة عن طبيعة العنصرية و العصبية في السودان؛ ولماذا تتشكّل في مستوى القبيلة تحديدًا؟ ولماذا لا تظهر في المستويات الأدنى كالفرع والعشيرة والبطن والأسرة؟ وكيف يمكن أن نرفع هذا الانتماء من موقع الضيق إلى فضاء الوطن، لنحوّل “العصبية و العنصرية” من معول هدم إلى قوة بناء، ومن ولاء منحاز لقلة إلى ولاءٍ وطني جامع للكل؟
عندما نطرح السؤال، “لماذا تبدأ العنصرية السودانية من مستوى القبيلة؟”، نجد أن العنصرية في السودان تبدأ من مستوى القبيلة لأنها أوسع وحدة اجتماعية ما قبل الدولة تحتفظ ببنية السلطة والهوية والحماية. فالقبيلة هي الإطار الذي يشكّل الوعي الأولي، وهي التي تمنح الفرد شعور الانتماء والامتداد والذاكرة المشتركة، كما انها تشكل وحدة إجتماعية يبرز فيها الضمان و الأمان المجتمعي.
لكنها ــ للأسف ــ تتحوّل في لحظات الاضطراب السياسي وغياب الدولة إلى فيالق هويةٍ مضادة، لا سيما عندما تتفكك المؤسسات الوطنية أو تضعف قدرة الدولة على تأطير الانتماء في مشروع قومي أوسع.
كذلك، و عندما نسأل، “لماذا تختفي العنصرية في المستويات الأدنى (الفرع، العشيرة، البطن، الأسرة)؟”، نجد ان العنصرية لا تظهر في هذه المستويات لأن التمايز بينها غير منتج لنفوذٍ اجتماعي أو سياسي كبير. فالعشيرة والبطن والأسرة روابط حميمة، تجعل الفرد يرى الآخر فيها جزءًا من نسيجه الحيوي المباشر، لا منافسًا على سلطة أو مورد. وكلما ضاق مستوى الانتماء، قلّت العصبية، وكلما اتسع ــ كما في القبيلة ــ زادت احتمالات الاحتكاك والصراع وتمترس الهوية، في مجتمع تتسع فيه ثقافة الحشد و الفزع الاجتماعي.
وحتى نرفع الفاصل للأعلى لتصبح عنصريتنا “قومية” لصالح الوطن؛ نواجه بأن التحدي الأكبر يكمن في ترقية الانتماء من القبيلة إلى الوطن، و ان المنطق و الحل ليس بإلغاء القبيلة، بل بتذويب شحنتها السلبية في بوتقة “السودانوية” الجامعة.
ومن أجل ذلك، علينا أن نعمل جميعًا على:
أن نحرك الفاصل للأعلى لتكون عنصريتنا (قومية) لصالح الوطن السودان وليس عنصرية جهوية أو قبلية أو مناطقية.
وأن نذيب كل المغالطات التاريخية من مظالم وشكاوى عن قضايا يعاني منها الجميع في حقيقة الأمر، وأن نذيب كل العقد في المستويات الأدنى دون “السودانوية” ليكون “السودان أولًا”.
وأن نعمل على العلاج بالوعي والتعليم بالتركيز على القواعد الدنيا و غرس ذلك في الاطفال والنشء والشباب ونصبر على النتائج لنحصد الثمرة بعد سنوات.
وأن نعمل على العلاج بالتربية الوطنية.
وأن نعمل على العلاج بنشر الوعي المجتمعي، والبقاء للكفاءة، والتوظيف حسب القدرات الفكرية والذهنية والمهارات.
ولأن السودان الآن كله مهمش وفقير، لذا يجب العلاج بالتنمية المتوازنة لصالح الكل ولأجل الوطن.
وأن يكون التنافس لصالح المركز السوداني الروحي وليس المركز الجغرافي.
استئصال الحروب والنزاعات المسلحة عن طريق الوعي ونزع جذور أسبابها و دواعيها.
بناء ورفع القدرات من أدنى لأعلى في القواعد المجتمعية.
نبذ القبلية لصالح السودان لحين التعافي الوطني.
لا حديث مجددًا عن قسمة ثروة أو سلطة وإنما تنمية متوازنة وحكم يتولاه الأصلح والأكفأ.
توحيد الجيوش في جيش قومي واحد.
إن أي مشروع وطني جديد يحتاج إلى هندسة اجتماعية إيجابية تُعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أساس المواطنة، لا على أساس القبيلة. و لذا يجب ان نحكم خطانا نحو هندسة جديدة للهوية الوطنية، ويمكن تحقيق ذلك عبر:
مشروع وطني لإعادة بناء العقد الاجتماعي:ليس ببيانات سياسية، بل بمنظومة تشريعية ومؤسسية تُنهي استخدام القبيلة كوسيلة للتمثيل السياسي أو كأداة للتعبئة أو كضامن للحقوق.
إعادة تعريف المركز: فالمركز ليس جغرافيا الخرطوم، بل هو مركز روحي للهوية السودانية لها
قيمها، تاريخها، تنوعها، لغاتها، وأحلام أهلها.
التنمية بوصفها العلاج العميق: فالجروح القبلية لا تُشفى بالشعارات، بل بالطرق والمياه والمدارس والمستشفيات والوظائف، وحين تتوزع الثروات بعدل، تسقط مبررات العصبية.
الجيش القومي: لا وطن بلا جيشٍ واحد. ووحدة المؤسسة العسكرية ليست شأنًا تقنيًا، بل خطوة استراتيجية لإلغاء منطق الجيوش القبلية والجهوية التي دمرت السودان.
تفكيك “سوق المظلومية”: لقد تحولت المظلوميات إلى سلعة سياسية تُباع وتُشترى، بينما السودان كله الآن مهمش وفقير. وحين يدرك الجميع هذه الحقيقة، يصبح من السهل الانتقال إلى منطق الحقوق الوطنية العامة، لا الحقوق المجتزأة.
إن كل محاولات بناء دولةٍ عادلةٍ وقويةٍ لن تنجح ما لم نعمل على إعادة تعريف الولاء الوطني ونُعد صياغة المعادلة الكبرى للانتماء عبر مبدأٍ بسيط في لفظه، عميق في دلالاته مفاده أن “السودان أولًا”.
فليس المقصود منه رفع شعار سياسي أو عبارة عاطفية، بل تأسيس ميزانٍ أخلاقي وطني يتحكم في اتجاه الولاءات ومرجعيات السلوك الجمعي.
فعندما يصبح السودان هو “المركز”، تتراجع الولاءات الصغرى تلقائيًا إلى مواقعها الطبيعية بوصفها روابط اجتماعية لا أدوات صراع، ويتحوّل الانتماء القبلي من معول لتمزيق الدولة إلى مكوّن تراثي يثري ثقافة الوطن ولا يتقدم عليها.
إن “السودان أولًا” يعني أن تُوزن القرارات بالوطن لا بالمجموعة، وأن تُقاس المصلحة العامة لا بالقبيلة أو الجهة، وأن تكون الكفاءة معيارًا، والمواطنة أساسًا، والعدل خطًا أحمر لا يتجاوزه أحد.
ويعني كذلك أن ندرك بأن نهضة السودان لا يحققها فريق أو إقليم أو جماعة، بل يحققها شعبٌ واحد متكامل ينظر إلى الوطن بوصفه الملكية المشتركة الكبرى التي لا يجوز الاحتطاب في غابتها لصالح فئة أو عصبية أو طموحٍ ضيق.
وحين تستقيم هذه الفلسفة، يصبح الطريق ممهدًا لعبور السودان من ضيق الانتماءات الصغيرة إلى رحابة الوطن الكبير، ومن التشظي إلى الوحدة، ومن الاضطراب إلى مشروع دولةٍ عادلة تتسع للجميع.
ومن بين أهم الفاعلين الاجتماعيين الذين يمكن أن يسندوا مشروع الهوية القومية “الإدارة الأهلية والطرق الصوفية”، فلقد لعبت الإدارة الأهلية والطرق الصوفية عبر التاريخ السوداني دورًا مركزيًا في تشكيل الوعي المجتمعي، وبناء منظومات القيم، وتهذيب العلاقات بين المجموعات السكانية. لكن هذا الدور تراجع حين جرى توظيفه في سياقاتٍ ضيقة تخدم المصالح الشخصية أو العصبيات القبلية، فانقلب من وسيلة ضبط اجتماعي إيجابي إلى أداة استقطاب وهدم، وأحيانًا إلى وقودٍ للصراع.
غير أن الحقيقة الأعمق هي أن هذه المؤسسات الاجتماعية التقليدية قادرة على أن تكون أكبر رافعة لبناء الوطنية السودانية إذا أعيد توجيهها نحو رسالتها الأصلية في الإصلاح، التهذيب، تجسير الروابط، ونشر ثقافة السلم الاجتماعي.
فالإدارة الأهلية، حين تتحرر من الولاءات الضيقة، تصبح جهازًا اجتماعيًا فعالًا لضبط النزاعات، وفضّ الخصومات، وردم الفجوات بين القبائل، وتثبيت قيم العدالة والمساواة في المجتمعات الريفية والبدوية. ويمكن أن تتحول إلى جهاز دعم لمشروع الدولة القومية، لا منافسًا لها، عبر الإرشاد، والحكمة، والتسويات المجتمعية التي تُعيد للوحدة الوطنية جذورها الأصيلة.
أما الطرق الصوفية، فإن في روحها وتاريخها وثقافتها ما يكفي لإحياء روح السودانوية الجامعة. فقد كانت دائمًا طرقًا عابرة للقبائل، تجمع الأفراد على قيم الذكر والمحبة والتواضع، وتؤسس لانتماء روحي مُوَحِّد يتجاوز الانتماءات الجغرافية والقبلية.
وإذا فُعِّل دورها بشكل منهجي، يمكن أن تكون خزان القيم الوطنية الذي يرفد مشروع الدولة الحديثة بروح التسامح والنبذ الواعي للعنصرية، والتأكيد على أن الإنسان يُكرَّم بعمله لا بانتمائه.
إن إعادة توجيه الإدارة الأهلية والطرق الصوفية وتحويلها من أدوات للتفكك إلى روافع للوحدة الوطنية؛ ولتكون أدوات بناء، وليس أدوات هدم، هو أحد أهم مفاتيح تشكيل هوية سودانية جديدة تتجاوز ضيق القبيلة إلى رحابة الوطن، وتحوِّل هذه المؤسسات من جزرٍ متباعدة إلى جسورٍ متينة تُلحم ما تفتت من الوحدة الوطنية.
لذا فإن مجموع هذه الخطوات، من إعادة تعريف المركز إلى إصلاح الإدارة الأهلية والطرق الصوفية، يشكل قاعدة صلبة لميلاد هوية وطنية جديدة…
والسودان ليس في أزمة “قبائل”، بل في أزمة “مشروع وطني” جامع لم يُستكمل بعد. وما لم ننجح في رفع الانتماء من مستوى القبيلة إلى مستوى الوطن، ستظل الجراح مفتوحة، وستبقى الدولة معلّقة بين هويات متصارعة تبحث عن غلبات صغيرة على حساب مستقبل كبير.
إن ما نحتاجه اليوم هو شجاعة الاعتراف، وحكمة التفكير، وطول النفس. نحتاج وعيًا يُذيب العقد، وتعليمًا يفتح الأفق، وتنميةً تُصلح الأرض، وجيشًا قوميًّا يحمي الجميع، وسودانوية تُعيد تعريف أنفسنا كأمة واحدة.
فإذا فعلنا ذلك، نكون قد بدأنا أولى خطوات التحرر من أسر القبيلة إلى رحابة الوطن… ومن فوضى الانتماءات الصغيرة إلى سودانٍ أكبر من الجميع، وللجميع، وبالجميع.
السبت 22 نوفمبر 2025م



