
كنا قد أوضحنا في الجزء الأول من هذا المقال، التشخيص العام لمفهوم الدولة كجسدٍ حيّ، وكيف تمرض أو تتعافى وفق توازن مؤسساتها ووظائفها، فإن السودان يمثل اليوم النموذج الأوضح لهذه المقاربة. فليس ما يعانيه من أزمات نتاجًا للحرب الأخيرة وحدها، بل هو تراكم أمراضٍ سياسية واجتماعية واقتصادية أصابت الجسد الوطني عبر عقود طويلة من الإهمال وسوء الإدارة، حتى انفجرت في صراعه الراهن.
إن السودان، بتاريخِه المعقد وتنوعه الواسع وإمكاناته الاستراتيجية الهائلة، يُجسد حالةً نادرة يتجاور فيها مرض الانقسام والشلل المؤسسي مع كنزٍ من الموارد غير المستغلة، وكأننا أمام جسدٍ أنهكه المرض لكنه لا يزال يحتفظ بقوة كامنة تؤهله للنهوض إذا وُجدت الإرادة والعلاج الصحيح.
ومن هنا، ينقلنا هذا الجزء من التشخيص المجرد إلى التطبيق المباشر على السودان: علله وأعراضه، ثم إمكاناته وفرص تعافيه، وصولًا إلى الطريق الوطني المطلوب لاستعادة العافية والنهضة.
السودان نموذجًا للأمراض والعلل
السودان، عبر تاريخه القديم والحديث، يُجسد نموذجًا حيًا لما يمكن أن تعانيه الدول من أمراض سياسية واجتماعية واقتصادية. فهو جسد مثخن بالأعراض التي تراكمت عبر عقود من الاختلال البنيوي، حتى تفجرت في حربه الأخيرة.
1) صراع الهامش والمركز – مرض الانقسام المزمن:
إن الجذور التاريخية، توضح أنه ومنذ الاستعمار البريطاني المصري، تمحورت التنمية والبنية الإدارية في العاصمة والمركز، وعم التهميش كل مناحي السودان بسبب انعدام برامج التنمية المتوازنة، كانت الاقاليم كلها مهمشة في التعليم والصحة والبنى التحتية، بينما ظلت الأطراف خاصة في (دارفور، الشرق، الجنوب سابقًا) الأكثر جأراً بالشكوى و محاربةً للمركز بالسبل و الوسائل السلمية أو العسكرية المسلحة.
و كنتيجة لذلك نشأت حركات مسلحة وقوى احتجاجية رفعت شعار “قضايا الهامش”، لكنها تحولت في كثير من الأحيان إلى حرب ضد الدولة نفسها، مما أضر بالمركز والهامش معًا.
وكمقارنة بالجسد، نجد أن هذا الصراع أشبه بخلل في الدورة الدموية، حين يحجب القلب الدم عن الأطراف، فتضعف الأعضاء الطرفية، لكن النتيجة النهائية أن الجسد كله يختل.
2) العصبية القبلية والجهوية – تفكك الهوية الوطنية:
يؤكد الواقع، أنه وبدلًا من أن تتشكل هوية وطنية جامعة، تصاعدت العصبيات القبلية والجهوية، فبات الانتماء للقبيلة أو الإقليم أقوى من الانتماء للوطن.
أدي هذا الامر إلى، تفتيت الولاءات الوطنية، عسكرة المجتمع عبر مليشيات قبلية، وتعطيل قيام دولة مؤسسات.
وكمقارنة بالجسد، فإن هذا التفكك أشبه بمرض مناعي ذاتي (Autoimmune Disease)، حيث يهاجم الجسد نفسه بدلًا من حماية أعضائه.
3) انخراط المتعلمين في الجهل المقنّع:
من المفارقات، نجد أن النخب المتعلمة التي كان يُفترض أن تقود التنوير والإصلاح، انزلقت في الغالب إلى دوائر التحزب الضيق أو التبعية للأيديولوجيات أو الولاءات القبلية.
نتج عن ذلك، تضليل العامة بدلًا من توعيتهم، استغلال بساطة الجماهير لخدمة مشاريع ضيقة، وإفراغ التعليم من دوره التنويري ليصبح أداة للتعبئة.
وكمقارنة بالجسد، فإن مثل الدماغ حين يُصاب بخلل معرفي (Cognitive Dysfunction)، فيضلل الجسد بأكمله ولا يقوده نحو العلاج.
4) الحرب الأخيرة – لحظة التشخيص الكاشفة:
إن ما حدث باندلاع الحرب الأخيرة في صبيحة 15 ابريل 2023م، لم يفرّق بين مركز وهامش، مدينة أو ريف، شمال أو جنوب.
هذه الحرب اظهرت الحقيقة الكاشفة، التى تؤكد و تثبت ان السودان كله مهمش، التخلف عام لا يخص جماعة أو إقليمًا دون آخر، و ان انهيار الخدمات والبنى التحتية عمّ كل الولايات.
كذلك فإن هذه الحرب كشفت هشاشة الدولة، وأسقطت أوهام التفوق الجهوي أو العرقي أو الطبقي.
5) سقوط دعاوى التمييز وانكشاف الهشاشة البنيوية(النتائج):
سقوط الأوهام التي يعتنقها الكثيرون، حيث بانت بوضوح أن كل دعاوى التمييز والإقصاء كانت مجرد تبريرات لصراع على السلطة والثروة.
انكشاف البنية، من ضعف المنظومة السياسية، وغياب المشروع الوطني الجامع.
هشاشة البنية الاجتماعية، وتفكك اللحمة الوطنية.
تآكل الاقتصاد، والاعتماد على الخارج والعجز عن استغلال الموارد.
وكمقارنة بالجسد، فإن السودان أشبه بجسد مريض عانى طويلًا من أعراض متفرقة، حتى جاء المرض الأخير (الحرب) ليكشف أن العلة شاملة، وأن العلاج يحتاج إلى برنامج تعافٍ كامل لا مجرد مسكنات.
6) امثلة دولية لصراعات الهامش و المركز والقبلية:
رواندا (الإبادة 1994م) بسبب الانقسام العرقي، لكنها تعافت عبر مصالحة وطنية وإصلاح اقتصادي.
العراق (بعد 2003م) بسبب الطائفية التي أضعفت الهوية الوطنية.
نخلص هنا الى، أن السودان هو حالة نموذجية لدولة مريضة بأعراض مزمنة، الانقسام الجهوي، التعصب القبلي، فشل النخب المتعلمة، وحروب عبثية. لكنه أيضًا حالة كاشفة، إذ أظهرت الحرب الأخيرة أن المرض عام، وأن الطريق إلى التعافي يمر عبر إعادة بناء الهوية الوطنية، واستعادة التوازن في جسد الدولة ككل.
إمكانات السودان المهدورة
رغم كل الأزمات والعلل التي يعاني منها السودان، فإنه يملك مخزونًا استراتيجيًا من الموارد الطبيعية والبشرية قلّ أن اجتمع في بلد واحد. غير أنّ هذه الإمكانات ظلت معطلة، بل تحولت أحيانًا إلى نقمة بدلًا من أن تكون نعمة، بسبب غياب الإرادة الوطنية والوعي الجمعي، وانشغال النخب بصراعات السلطة.
1) الموارد المائية:
نهر النيل وروافده، تعتبر أطول أنهار في العالم، تمد السودان بمياه كافية للزراعة وتوليد الطاقة الكهرومائية.
في المياه الجوفية، للسودان مخزون ضخم يكفي لعقود إذا أُحسن استغلاله.
وكمقارنة، فإن المياه تمثل “الدم” في جسد الدولة، إذ تضخ الحياة في الزراعة والصناعة، لكن السودان عجز عن تحويلها إلى مصدر نهضة كما فعلت مصر مثلًا.
2) الأراضي الزراعية:
من حيث المساحة، يملك السودان حوالي 200 مليون فدان صالحة للزراعة، لكن المستغل منها فعليًا أقل من 30%.
و في المقومات، هناك تنوع مناخي يتيح زراعة محاصيل متعددة (قمح، ذرة، قطن، صمغ عربي).
لكن نجد المفارقة أنه، بينما تعاني دول كثيرة من أزمة غذاء، ظل السودان يستورد القمح ويعتمد على المعونات.
3) الثروات المعدنية والنفطية:
تتوفر من المعادن الذهب، الكروم، النحاس، الحديد، وغيرها من الثروات الباطنية.
و في النفط والغاز، هناك موارد واعدة رغم فقدان جزء كبير منها بعد انفصال الجنوب.
لكن تظل المشكلة هي غياب الشفافية وضعف البنية التحتية حوّلا هذه الثروات إلى مصدر صراع وفساد بدلًا من أن تكون ركيزة للتنمية.
4) الثروة الحيوانية:
حجم الثروة الحيوانية السودانية، أكثر من 100 مليون رأس من الإبل والأبقار والأغنام والماعز.
كأهمية فإن السودان يمكن أن يكون أكبر مصدر للحوم في إفريقيا والشرق الأوسط.
لكن الإشكالية هي ضعف سلاسل القيمة، غياب التصنيع الغذائي، واعتماد الصادر على الشكل الخام بدلًا من التصنيع.
5) الموقع الجغرافي الاستراتيجي:
يمتد موقع السودان الحيوي و الاستراتيحي على ساحل يبلغ أكثر من 750 كيلومترًا على البحر الأحمر، و يمثل بوابة طبيعية بين إفريقيا والعالم العربي وآسيا.
كفرصة، كان يمكن أن يصبح السودان مركزًا لوجستيًا وتجاريًا عالميًا، وممرًا استراتيجيًا للتجارة الدولية.
لكن الواقع يقول أن الموانئ ظلت متخلفة عن نظيراتها في المنطقة، وأصبحت محط أطماع وصراع إقليمي ودولي.
6) رأس المال البشري:
عدد سكان السودان الان يقترب من 50 مليون نسمة، غالبيتهم من الشباب.
والطاقة الكامنة في هذا الشعب تشير إلى انه شعب متعلم نسبيًا، منتشر في الخارج، وله خبرات متنوعة.
لكن في بلد المفارقات، تجد أن هجرة العقول السودانية أفقدت الدولة موارد بشرية ثمينة، وحوّلت الطاقات الشابة إلى عامل ضغط بدلًا من أن تكون قوة دفع.
7) أسباب تعطيل الإمكانات:
رغم هذه الثروات، بقي السودان أسير دائرة “اللا إنتاج”، وذلك لأسباب:
أ. غياب الإرادة الوطنية: لم تتوفر قيادة سياسية تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة.
ب. ضعف الوعي الفردي والجماعي: المواطن انشغل بقوت يومه، وغابت عنه الرؤية الإستراتيجية لمستقبل بلده.
ج. انشغال النخب بالصراعات: بدلاً من تحويل الموارد إلى مشاريع تنموية، تنافست النخب على اقتسام السلطة والثروة.
8) نمادج دولية لاستثمار الموارد:
ماليزيا: استغلت موقعها الجغرافي ومواردها الزراعية (زيت النخيل، المطاط) لتتحول إلى اقتصاد صناعي متقدم.
البرازيل: استفادت من مواردها الزراعية والمعدنية لتصبح قوة إقليمية.
إثيوبيا مؤخرًا: رغم فقرها، طورت سد النهضة ومشاريع تنموية جعلتها لاعبًا إقليميًا مؤثرًا.
هذا يوضح أن الموارد وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى إرادة سياسية واستراتيجية واضحة.
9) النتيجة ثروة بلا عافية:
تحولت موارد السودان إلى “كنز مدفون”، لا يستفيد منه الشعب ولا يوظَّف في التنمية. كجسد يملك دمًا وأعضاءً قوية، لكنه عاجز عن الحركة بسبب شلل في جهازه العصبي. والنتيجة هي ان السودان بقي يدور في دائرة العراك والتطاحن “في لا شيء”، بينما كان يمكن أن يكون من أكبر الاقتصادات في إفريقيا والمنطقة.
طريق التعافي الوطني
كما أن الجسد المريض لا يشفى بمسكنات مؤقتة بل يحتاج إلى برنامج علاجي متكامل يعيد له عافيته، فإن السودان يحتاج إلى برنامج تعافٍ وطني شامل، يعالج علله السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في إطار واحد مترابط.
1) النظام السياسي الصحي والمعافى:
حيث يتطلب ذلك جملة من المظاهر، ابرزها:
تعزيز الشفافية والمساءلة كآلية لمحاربة الفساد.
تحقيق المشاركة السياسية على أساس المواطنة لا الجهوية أو القبلية.
تأسيس نظام ديمقراطي مستدام يقوم على التداول السلمي للسلطة.
كمقارنة بالجسد، فإن النظام السياسي هو “الجهاز العصبي” للدولة، إذا كان مشلولًا تعطلت بقية الأجهزة. الإصلاح هنا يعادل إعادة توصيل الإشارات العصبية بين الدماغ وبقية الأعضاء لضمان وحدة الحركة.
2) المنظومة الاقتصادية الفعالة:
هناك عدد من الركائز الأساسية لتحقيق اقتصاد فعال، منها:
توظيف الموارد الزراعية والمائية والمعدنية لصالح الشعب.
بناء قاعدة إنتاجية قوية بدلاً من الاعتماد على الريع أو المساعدات.
إصلاح النظام المالي ومحاربة الاقتصاد الموازي.
الهدف من ذلك تحويل السودان من “مخزن موارد” إلى اقتصاد تنافسي منتج.
وكمقارنة بالجسد، فالاقتصاد هو “الجهاز الدوري”، يضخ الدم (رأس المال والموارد) في عروق الدولة. إذا تعطل، يموت الجسد رغم سلامة بقية الأعضاء.
3) الإصلاح الأمني والعسكري:
من الإجراءات و الضرورات المطلوبة في المنظومة الامنية و العسكرية:
إعادة بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على أسس وطنية لا حزبية أو قبلية.
توحيد و تجميع السلاح تحت سلطة الدولة.
تطوير قدرات الجيش والأمن لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
ترسيخ دولة القانون التي تحتكر استخدام القوة المشروعة.
الغاية من هذه الاجراءات و الترتيبات، حماية السيادة الوطنية وضمان الاستقرار الداخلي.
وكمقارنة بالجسد، فالجيش والأمن هما “جهاز المناعة”، فإذا انهار المناعة صار الجسد عرضة لأي عدوى أو غزو خارجي.
4) النهضة الاجتماعية والثقافية:
لتحقيق نهضة اجتماعية و ثقافية، نشيرللأولويات التالية:
إعادة الاعتبار للتعليم كأداة للتحرر والتقدم.
محاربة الجهل والتعصب القبلي والعنصري.
إحياء قيم التسامح والتعايش بين مكونات المجتمع.
تمكين الثقافة والإبداع كجزء من بناء الهوية الوطنية الجامعة.
وكمقارنة بالجسد، فإن التعليم والثقافة هما “العقل والوعي”، إذا أُصيب الجسد بالخرف (الجهل) فقد القدرة على إدارة نفسه. النهضة هنا هي استعادة الذاكرة والوعي الجماعي.
5) القيادة الجديدة شرط التحول:
ان شروط التغيير تتطلب قادة جدد، يختلفون عن النخب التقليدية التي أهدرت موارد السودان.
هؤلاء القادة يجب ان تتوافر فيهم من الصفات،التحلي بالوعي الوطني الخالص، بلا حسابات قبلية أو حزبية ضيقة، قدرة على كسب ثقة الناس عبر العمل لا الشعارات، وإرادة سياسية لإدارة التغيير رغم الصعوبات.
واذا ما تحقق ذلك، فانه بكل تأكيد بشارة لميلاد وطن جديد بقيادة وطنية واعية، قادرة على تحويل الإمكانات إلى واقع.
6) تكامل الأركان هو العلاج الشامل:
لا يكفي إصلاح السياسة وحدها أو الاقتصاد فقط. التعافي الحقيقي يشبه الخطة الطبية المتكاملة التي تشمل:
الدواء (الإصلاح السياسي).
الغذاء (الاقتصاد المنتج).
المناعة (الأمن الموحد).
العلاج النفسي والعقلي (النهضة الاجتماعية).
فإذا تكاملت هذه الأركان، استعاد جسد الدولة عافيته وخرج السودان من أزماته التاريخية.
7) دول نجحت في إعادة البناء بعد الكوارث:
لقد نجحت ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية في تحويل الخراب الشامل إلى نهضة اقتصادية/صناعية كبرى.
كما نجحت رواندا بعد الإبادة في التحول من بلد محطم إلى نموذج إفريقي للنمو السريع.
اما كوريا الجنوبية، فبعد الحرب الكورية فقد نهضت و بقوة، من بلد فقير مدمر إلى قوة اقتصادية كبرى.
إن النظر لهذه التجارب بعين الاعتبار و استخلاص الدروس وهذه المقارنات تعطي رسالة أمل قوية مفادها “إذا تعافى غيرنا من الدمار، يمكن للسودان أن يتعافى أيضًا”.
إن طريق التعافي الوطني ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. فكما أن المريض لا يُشفى إلا بعلاج جذري، يحتاج السودان إلى إرادة وطنية جديدة وبرنامج إصلاحي متكامل، يقوده رجال ونساء على قدر المسؤولية. هذا وحده الكفيل بميلاد وطن جديد، متحرر من علل الماضي، قادر على المنافسة والنهوض في محيطه الإقليمي والدولي.
دور الفرد والمجتمع في التغيير:
إذا كانت الدولة جسدًا حيًا يحتاج إلى علاج، فإن الفرد والمجتمع هما “الخلايا” التي تُشكل هذا الجسد. لا يمكن أن ينهض الكيان الكلي ما لم تتعافَ خلاياه أولًا. ومن هنا فإن التغيير لا يُصنع عبر الصراعات الدموية أو الحسابات الحزبية الضيقة، بل عبر ثورة وعي وسلوك تبدأ من الفرد وتمتد إلى المجتمع، لتشكل قاعدة النهضة الوطنية.
1) تجاوز الذاتية والأنانية:
الفكرة في ذلك هي أن الإنسان حين يجعل ذاته أو مصلحته أو قبيلته فوق الوطن، فإنه يسهم في إضعاف الدولة.
و المطلوب عملياً، هو الارتقاء فوق الشخصنة والأنانية، وجعل الوطنية هي البوصلة الأولى.
وكمقارنة بالجسد، نجد أن الخلية السرطانية هي التي تنمو بشكل أناني على حساب الجسد كله، فتقوده إلى الهلاك. بالمثل، الأنانية السياسية أو الاجتماعية سرطان يفتك بجسد الوطن.
2) مسؤولية الجميع:
المواطن، عبر الالتزام بالقانون، والمشاركة الإيجابية في الإنتاج والعمل العام.
المثقف، بمسؤوليته التنويرية، ومكافحة خطاب الكراهية والجهل.
السياسي، بتقديم المصلحة الوطنية على الحزبية، وصياغة برامج تنموية لا شعارات فارغة.
العسكري، بحماية الوطن لا الحكم باسم البندقية، وبالالتزام بدور المؤسسة النظامية.
الاقتصادي ورجل الأعمال، عبر الاستثمار في الداخل، وتوظيف الثروات لخلق فرص عمل حقيقية.
عليه، فإن كل فرد، في موقعه، هو “خلية” مسؤولة عن صحة جسد الدولة.
3) مبدأ الشراكة الوطنية:
و لتحقيق مبدأ الشراكة الوطنية فإن المطلوب، هو إدراك أن بناء الدولة لا يقوم على الإقصاء أو الاحتكار، بل على شراكة الجميع.
لكن الخطورة في ذلك هي أن أي إقصاء لفئة أو مجموعة اجتماعية يعني ترك جزء من الجسد دون علاج، وهو ما يقود إلى انتكاسة جديدة.
وكنموذج حي وواقعي، فإن الدول التي نهضت من أزماتها (مثل رواندا بعد الإبادة، أو ألمانيا بعد الحرب) لم تنجح إلا بتبني مفهوم الشراكة الوطنية الجامعة. كما ان نموذج جنوب إفريقيا بعد سقوط الأبارتهايد يثبت دور المجتمع في المصالحة الوطنية. اما الهند فقد تجلت تجربتها في مقاومة الاستعمار عبر اللاعنف والمشاركة الشعبية. كل هذه الأمثلة تبرز أن الفرد والمجتمع عنصر حاسم، وليس فقط الدولة أو النخب.
4) القاعدة الذهبية هي” التغيير يبدأ من الداخل” :
النص القرآني: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11).
و هذا هدى رباني يؤكد ان التغيير لا يُفرض من الخارج، بل ينطلق من تحول داخلي في وعي وسلوك الأفراد يبدا من عند أنفسهم.و يجب ان لا يعوَّل على تدخل خارجي لحل الأزمة السودانية.
الحل يكمن في المصالحة مع الذات الوطنية وتغيير أنماط التفكير والسلوك.
الإصلاح يبدأ من “الإنسان السوداني” حين يقرر أن يكون وعيه ووطنيته فوق جهويته وقبليته.
5) التغيير كعملية مستمرة:
إن الوعي المجتمعي لا يُبنى في يوم أو شهر، بل هو عملية مستمرة تتطلب التربية والتعليم والإعلام الهادف.
الصبر والعزيمة مطلوبان لأن التغيير الحقيقي يحتاج إلى وقت وتضحيات، مثلما يحتاج جسد المريض إلى علاج طويل الأمد.
كذلك فإن كل خطوة صغيرة في سلوك الأفراد والمجتمع تساهم في التغيير الكلي لجسد الدولة مما يؤدي لتراكم الوعي و المعرفة و الخبرات و تطورها.
دور الفرد والمجتمع ليس ثانويًا بل هو الشرط الأول للتغيير. فالدولة لا تُبنى بالخطط والبرامج فقط، بل بوعي الناس الذين يشكلون نسيجها. وإذا ارتفع الإنسان فوق ذاته، وأدرك أن الكل مسؤول وشريك، فإن جسد الوطن يتعافى. أما إذا ظل الفرد أسير أنانيته، والمجتمع غارقًا في انقساماته، فلن يجدي أي برنامج إصلاح مهما كان متكاملًا.
تُظهر المقاربةُ العضويةُ أن الدولةَ بنيةٌ حيّةٌ تحتاج شروطَ عافيةٍ مستدامة، و هذا يتطلب توازنًا سياسيًا (حُكم القانون والمساءلة)، وكفاءةً اقتصادية (قاعدة إنتاجية وعدالة توزيع)، ومناعةً أمنية (احتكار شرعية القوة ووحدتها)، ورأسمالًا اجتماعيًا وثقافيًا (تعليمًا وهويةً جامعة). وعليه، فإن تعافي السودان يتطلب حزمةَ سياساتٍ متكاملة لا مسكّناتٍ قطاعية.
وبالقياس الطبي، تتدرّجُ الاستجابةُ من التدخلات الخفيفة (إصلاحاتٍ تنظيمية) إلى الرعاية القصيرة (برامجَ إنعاشٍ اقتصادي واجتماعي) وصولًا إلى «العناية المكثّفة» (إعادة هيكلةٍ مؤسسيةٍ عميقةٍ وتوحيدٍ صارمٍ لأدوات القوة). غير أنّ الوقاية المؤسسية—من خلال حوكمةٍ شفّافة، ووقايةٍ اجتماعيةٍ تعليمية، وآلياتٍ مبكرةٍ للإنذار والاستجابة—أقلُّ كلفةً وأكثرُ فاعليةً من بروتوكولاتٍ علاجيةٍ متأخرة.
إنَّ حواملَ التغيير الفعّالة تتمثّل في قيادةٍ وطنيةٍ ذات شرعيةٍ أدائية، عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، مساراتِ تنفيذٍ قابلةٍ للقياس والمساءلة. وبذلك يُصبح ميلادُ «سودانٍ جديد» نتيجةً داخليةً لقرارٍ جمعيٍّ يُغيّر ما بالأنفس قبل المؤسسات، على قاعدة قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
الدولة كالجسد، والإنسان هو طبيب نفسه بدءاً، يبتديء من عنده العلاج. فإذا وُجد وعي وطني جامع، وإرادة صلبة، وقيادة جديدة مؤمنة بوطنها، فإن السودان قادر على النهوض من بين ركام الحرب كما ينهض الجسد بعد مرض طويل. الطريق شاق، لكنه ليس مستحيلًا، والسودان بما يملك من خيرات وبما يقدمه أبناؤه قادر على صناعة غدٍ أفضل. إن ميلاد سودان جديد لن يأتي من الخارج، بل من داخل هذا الجسد نفسه، من إرادة أبنائه الذين لا يملك أحد غيرهم الحق ولا القدرة على صياغة مستقبله.
وكما أن المريض قد يمر بمراحل متعددة في العلاج، فربما يكتفي بزيارة الطبيب، وربما يحتاج إلى ساعات أو أيام في المستشفى، وربما يدخل غرف العناية المتوسطة أو الحثيثة، أو يمر عبر بروتوكولات علاجية معقدة ومكلفة، وربما يظل صحيحًا معافى طوال عمره إذا وُقي وحافظ على صحته… كذلك هي الدول. فالأجدر بنا أن نعمل على وقاية الدولة ورعايتها قبل أن تصل إلى مرحلة الطوارئ أو العناية المكثفة، فالرعاية الاستباقية أقل كلفة وأعمق أثرًا، وهي الضمانة الوحيدة لأن تبقى الدولة قوية قادرة، تحتضن أبناءها وتحمي مستقبلهم.
إن الدولة كالجسد؛ قد يمرض لكنه لا يُحكم عليه بالموت ما دام فيه نفس وإرادة على التعافي. والسودان، رغم ما أصابه من حروب وانقسامات وأزمات متراكمة، يملك من الموارد الطبيعية، والطاقات البشرية، والموقع الاستراتيجي، ما يجعله قادرًا على النهوض إذا توفرت قيادة وطنية رشيدة وإرادة جماعية صادقة.
الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من الداخل؛ من وعي الفرد، ومن قوة المجتمع، ومن عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة عادلة، معافاة، ومتماسكة. وإذا كان الدرس القرآني الباقي يقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، فإن تعافي السودان رهينٌ بتغيير أبنائه لأنفسهم قبل مؤسساتهم، ليصنعوا بأيديهم ميلاد “سودان جديد” يليق بتاريخهم ويصون مستقبل أجيالهم.
الخميس 28 أغسطس 2025م