
في الحلقات السابقة تناولنا دور الدولة ومؤسساتها في بناء «الظهر الرقمي»، غير أن هذا البناء لا يكتمل ما لم يتحول إلى خدمات عملية وملموسة للمواطن. فالقوانين والتشريعات والبنى التحتية لن يكون لها معنى إن لم تنعكس على حياة الناس اليومية. جوهر التحول الرقمي أن يجد المواطن معاملاته أبسط، أسرع وأكثر شفافية، وأن يشعر بأن الدولة باتت أقرب إليه بخدماتها.
واقعنا الراهن يكشف فجوة واسعة بين الممكن والمتاح، فما زال المواطن يعاني رهق الاصطفاف الطويل، والانتقال من موقع إلى موقع للحصول على خدمة واحدة لجهة واحدة، بينما العالم من حولنا ينتقل إلى منصات موحدة تتيح للمواطن إنهاء معاملاته بخطوة واحدة، من استخراج الأوراق الرسمية إلى توثيقها، مرورا بالصحة والتعليم والمياه والكهرباء.
هنا تبرز أهمية إطلاق مشاريع ذات أولوية عاجلة مثل تحديث وإكمال السجل المدني وربطه بكافة الخدمات، بناء هوية رقمية موثوقة، وتفعيل نظم الدفع الإلكتروني. هذه ليست تفاصيل إدارية، بل ركائز أساسية تُعيد الثقة بين المواطن والدولة وتُبرهن أن الإصلاح الرقمي واقع لا شعار.
غير أن الدولة وحدها لا تستطيع إنجاز هذه المهام. فنجاح الخدمات الإلكترونية يعتمد على شراكات واسعة. شراكات عالمية تتيح الاستفادة من الخبرات والتقنيات المتقدمة، وشراكات محلية مع القطاع الخاص الذي يمتلك مرونة وسرعة في التنفيذ، وقدرة على الابتكار لا غنى عنها. وإلى جانب ذلك، هناك رصيد وطني بالغ الأهمية يتمثل في الخبرات السودانية المنتشرة حول العالم، وهي من أقرب وأقوى أدوات التغيير. هذه الكفاءات التي راكمت تجارب في كبريات المؤسسات الدولية قادرة على أن تقدم خبرة عملية ومعرفة مباشرة بالسياقات العالمية، وفي الوقت نفسه تحمل انتماءً عميقًا يجعلها الأقدر على فهم احتياجات المجتمع وتقديم حلول واقعية قابلة للتطبيق.
المعادلة الصحيحة إذن تقوم على توزيع الأدوار. الدولة تضع الرؤية والسياسات وتكفل الحوكمة، الشركاء الدوليون يقدمون المعرفة والتقنيات، الخبرات السودانية بالخارج تضيف عمقًا محليًا عالميًا في آن واحد، والقطاع الخاص ينفذ ويبتكر ويستثمر. بهذا التكامل يمكن أن تتحول الخدمات الإلكترونية إلى أداة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.
ونحن نعيد بناء ما دمرته الحرب، فإن الاستثمار في الخدمات الإلكترونية ليس خيارًا إضافيًا، بل ضرورة وطنية عاجلة لإعادة وصل ما انقطع بين المجتمع والدولة، وتشييد أساس صلب لعبور آمن نحو مستقبل أكثر كفاءة وفاعلية ونماء.
في العمود القادم من آفاق رقمية، نسلط الضوء على رأس المال البشري، المحرك الحقيقي للتحول الرقمي .