الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

الحفيان : في مرمى الاعلام و وسائطه

د. اسامة محمد عبدالرحيم

في كل مرحلة مفصلية تمر بها الأوطان، يبرز الإعلام كأحد أهم أدوات التوجيه والتأثير وصناعة الرأي العام، لا سيما في مجتمعات تعيش تحولات سياسية وأمنية واجتماعية كبرى. ولأن الإعلام لم يعد مجرد ناقل للأحداث، بل فاعل مباشر في صياغتها، بات لزامًا فهم أدواته وآلياته وآثاره المتشابكة على مؤسسات الدولة والمجتمع، خاصة في زمن تصاعد دور وسائط الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي.

منذ نشأته، لعب الإعلام دورًا حاسمًا في التأثير على توجهات الجمهور وتشكيل القناعات الجمعية. فالاعلام ينقل الحدث ، و يوجه الانطباع، ويؤطر المعلومة، ويصنع المزاج العام، بما يؤثر على متخذي القرار في قمة هرم السلطة. وقد شهدنا في مراحل كثيرة كيف غيّر الإعلام مسار دول، وأسقط أنظمة، أو زيف الوعي حتى تماهى الباطل مع الحق. فهو لا ينقل الخبر فقط، بل يختار طريقة عرضه، ومضمونه، وتوقيته، وهو ما يترك أثرًا مباشرًا في الوعي الجمعي، وفي بناء أو هدم الثقة بين الناس والمؤسسات. ومع تطور تقنيات البث والنشر، أصبح الإعلام سلاحًا ذا حدين؛ يمكن أن يعزز الاستقرار ويقود إلى التماسك، أو يثير الفتن وينسف ركائز التعايش السلمي.

تشمل وسائط التأثير الكبرى الإعلام التقليدي كالقنوات التلفزيونية والإذاعات والصحف، إلى جانب الإعلام الرقمي، والمنصات المفتوحة كيوتيوب وتيليغرام، إلا أن منصات التواصل الاجتماعي باتت اليوم الأكثر تأثيرًا و فاعلية و انتشارا ، إذ لم تعد مجرد أدوات تواصل، بل مصانع للرأي، ومنابر للتعبئة، وساحات لصراع النفوذ والتأثير. إلا أن ما يُلفت النظر في التحولات الأخيرة هو أن الوسائط الحديثة، رغم ما أتاحته من حرية في النشر والتعبير، أضحت في بعض الأحيان أدوات للابتزاز والتضليل وتصفية الحسابات الشخصية أو السياسية، بعيدًا عن المهنية والمسؤولية.

لم يعد خافيًا أن منصات مثل واتساب، فيسبوك، ومنصة X (تويتر سابقًا)، قد تجاوزت وظيفتها الاجتماعية إلى أدوار سياسية وأمنية خطيرة. فهذه الوسائط باتت تصنع مزاجًا عامًا، وتوجه بوصلة الرأي، وتؤثر في قرارات الدولة من خلال حملات ممنهجة، غالبًا ما تكون وراءها جهات ذات مصالح. ويتم من خلالها تضخيم بعض الشخصيات، أو تشويه أخرى، وترويج أخبار غير دقيقة، بما يؤثر على ثقة المواطن في مؤسسات الحكم.

في السودان، كما في كثير من دول الإقليم، أصبح تطبيق واتساب أداة تعبئة وتجنيد وتوجيه يومي للرأي العام، خصوصًا عبر القروبات السياسية والمجتمعية. أما فيسبوك، فظل المسرح الأوسع للتجاذب السياسي، وتبادل الخطابات الاستقطابية، بينما تمثل منصة X (تويتر سابقًا) ساحة لصراع النخب والموجهين والممولين، الذين يستخدمون الجيوش الإلكترونية في شنّ حملات منظمة تُضخم أفرادًا، أو تدمّرهم معنويًا، وتؤثر في السياسات والقرارات.

لقد تحوّلت وسائط التواصل الاجتماعي من كونها أدوات للتوعية والتعبير الحر إلى ما يشبه محاكم افتراضية شعبية، تُصدر أحكامها دون بيّنة، وتنفّذ “عقوباتها المعنوية” دون مسؤولية. وأصبحت كثير من الصفحات والمنصات تُمارس أدوارًا رقابية وعقابية لا تستند إلى القانون أو المهنية، بل إلى المزاج العام، أو إلى حملات منظمة تقف خلفها أجندات خفية.

فبدلًا من أن تكون هذه الوسائط فضاءً للتثبت من المعلومات، وإشاعة الحقيقة، والتفكّر الجماعي الرشيد، صارت في كثير من الأحيان ساحة للفبركة، وتصفية الحسابات، وتحريض الرأي العام ضد أفراد أو مؤسسات، دون أي التزام بأخلاقيات النشر، أو حتى بالتثبت من الوقائع.

في المقابل، تُظهر التجارب الديمقراطية المستقرة كيف يمكن أن يكون الإعلام سلطة مسؤولة وفاعلة دون أن ينفلت من الضوابط. ففي دول مثل ألمانيا، وكندا، والسويد، يتمتع الإعلام بحرية كبيرة، لكنه في الوقت نفسه يخضع لمواثيق شرف صارمة، وتُراقب ممارساته من هيئات مستقلة تُراعي المهنية والعدالة. كما تُمنح الشخصيات العامة حق الرد والتوضيح قبل نشر الاتهامات أو الإساءات، وتُحاسب المؤسسات الإعلامية قانونيًا عند التورط في حملات تشويه أو نشر أخبار كاذبة. إن هذا التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية هو ما يجعل الإعلام هناك ركيزة للاستقرار الديمقراطي، لا أداة لهدم الثقة أو تأجيج الانقسام.

إن خطورة هذا الواقع تتجلّى في أن الإعلام الرقمي بات جهة محاسبة ومساءلة وتنفيذ للعقوبة المعنوية، أكثر من كونه سلطة تنوير. وفي غياب الضوابط، تُحطَّم السمعة بكبسة زر، ويُشوَّه المسار المهني أو الوطني لشخص لمجرد أنه كان هدفًا لحملة منظّمة، دون منحه فرصة الدفاع، أو انتظار نتائج تحقيق رسمي، أو حتى التثبت من مصادر موثوقة.

في الأنظمة ذات البنية التنفيذية المركّبة، تلعب بعض الشخصيات المقرّبة من مراكز القرار أدوارًا غير مباشرة لكنها بالغة التأثير، سواء من داخل المؤسسات أو من محيطها القريب. وهذه الظاهرة ليست محصورة في السودان فحسب، بل عرفتها تجارب كثيرة في العالم. و تاريخ السياسة السودانية، والعربية عمومًا، حافل بأمثلة لشخصيات لم تكن في قمة الهرم التنفيذي، لكنها كانت الأكثر تأثيرًا في صناعة القرار:

على الصعيد الإقليمي، يمكن أن نُشير إلى شخصيات مثل خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي في السعودية في عهد الملك عبد الله، والذي كان يُعد من الشخصيات ذات النفوذ و التأثير السياسي و التنفيذي بالبلاد حتى لحظة وفاة الملك، قبل أن تتم الإطاحة به في أول قرار للملك سلمان. وفي مصر، مثّل اللواء عمر سليمان نموذجًا كلاسيكيًا لرجل الظل المؤثر، فقد كان رئيس المخابرات العامة ومهندس العلاقات الإقليمية والدولية، وأحد أبرز أعمدة نظام مبارك.

في السودان، لعب الفريق طه عثمان الحسين، مدير مكتب الرئيس السابق عمر البشير، دورًا حاسمًا و لا يمكن اغفاله في ملفات العلاقات الخارجية، والأمن، و الاتصال و التنسيق مع أجهزة إقليمية. وبحسب مصادر واسعة الاطلاع، فقد كان لطه دور خفي لكنه حاسم في تفكيك و إسقاط نظام الإنقاذ بالتنسيق مع قوى إقليمية، في مسارٍ يرقى في نهاياته من حيث الطبيعة و النتائج، إلى مستوى العمالة و التخابر و الجاسوسية السياسية.

اعقب سقوط الانقاذ و ابان فترة تولى عبدالله حمدوك رئاسة الوزراء، ظهور محموعة عرفت ب(شلة المزرعة) و برز حينها اسم (الشيخ خضر) كشخص له نفوذ و تاثير بالغين في صناعة الاحداث و اصدار القرارات.

في ذات السياق، برز حديثًا (في ايامنا هذه) البروفيسور حسين الحفيان، كمستشار غير رسمي لرئيس الوزراء د. كامل إدريس، ويبدو أن له تأثيرًا حقيقيًا في رسم السياسات، حيث تشير التقديرات إلى أنه يقوم فعليا بدور استشاري مؤثر في تشكيل مشهد الحياة العامة في مستواها الاعلى و له سهم بين في تشكيل طاقم الحكومة، رغم أنه لا يشغل منصبًا رسميًا. وقد واجه الرجل حملة اعلامية إلكترونية ضخمة تبنتها وسائط التواصل الاجتماعي تستهدف تحجيمه و جعلته في مرماها ، ما اضطره للخروج ببيان مكتوب عنوانه (و ما ادراك ما الحفيان؟ ) يوضح أنه يعمل تطوعًا و يشرح فيه قدراته و امكاناته، مما يكشف حجم تأثير الإعلام على تشكيل القناعات قبل معرفة الحقائق، و قدرته كذلك على اجبار المسوول على ابراز الحقائق ، و يبدو ان ما ضاعف من مساحة تناول سيرته اعلاميا، و في الحديث المرسل في عامة وسائط التواصل الاجتماعي و الاعلام او الحديث الخاصة في جلسات الانس و الصوالين المغلقة هو قرابته المباشرة بالسيد الرئيس البرهان.

ان من حق كل مواطن ان يسهم في بناء و نهضة بلاده و لكن عبر البوابة الصحيحة و بالطريقة الصحيحة، و إذا كان البروف الحفيان يملك الكفاءة والخبرة التي تؤهله للإسهام في العمل العام، فمن حقه أن يفعل ذلك عبر القنوات المؤسسية، لا أن يُدان بسبب صلة قرابة أو صداقة تربطه بأي مسؤول. فالدولة التي تُدار بعقلية المؤسسية والقانون لا تخشى من الكفاءات ولا تخضع لمنصات التحريض، بل تفتح أبوابها لمن يستحق وفق معايير واضحة.

إن ما تمر به البلاد من تحديات جسيمة، يفرض على الإعلام أن يكون جزءًا من الحل لا من الأزمة. الإعلام يجب أن يتحلى بالمهنية، والحياد، والمسؤولية الوطنية، لا أن ينجرّ وراء حملات تشويه أو تقديس غير موضوعية. كما أن الدولة مطالبة بالاحتكام إلى القانون واللوائح، وتبنّي منهج الشفافية والمحاسبة، بعيدًا عن العواطف أو علاقات القرابة.

المسؤولية الكبرى تقع على الإعلام نفسه. فبدلًا من أن يكون حلبة لتصفية الحسابات أو تمجيد الأفراد دون مبرر، ينبغي أن يلتزم بميثاق شرف مهني ووطني. لا بأس أن يُسلط الضوء على الكفاءات، لكن بمنطق المعلومة والتقييم المهني لا بمنهج الشحن العاطفي أو الهدم الهدّام. كما أن من حق أي مواطن — مهما كانت صلته بأي مسؤول — أن يُمنح فرصة التقدّم للعمل العام عبر القنوات المؤسسية، لا أن يُدان أو يُستهدف لمجرد النسب أو الصداقة.

إن ما تمر به البلاد من تحديات جسيمة، يفرض على الإعلام أن يكون جزءًا من الحل لا من الأزمة. الإعلام يجب أن يتحلى بالمهنية، والحياد، والمسؤولية الوطنية، لا أن ينجرّ وراء حملات تشويه أو تقديس غير موضوعية. كما أن الدولة مطالبة بالاحتكام إلى القانون واللوائح، وتبنّي منهج الشفافية والمحاسبة، بعيدًا عن العواطف أو علاقات القرابة.

تحتاج الدولة، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان، إلى ترسيخ المؤسسية في الحكم، والاحتكام إلى القانون والكفاءة والشفافية في اختيار المسؤولين، لا إلى شبكات العلاقات أو دوائر المحسوبية. كما تحتاج إلى إعلام وطني رشيد يساهم في توعية المجتمع، لا في تفتيته أو تشويهه أو اثارته بطريقة سالبة.

الإعلام هو السلطة الرابعة حقا، وهو كما يقال أقوى من الحكومات، لكنه أضعف من الحقيقة إن حضرت. ولهذا فإن بناء إعلام مهني مسؤول، وتحصين القرار الوطني من الابتزاز، واعتماد المؤسسية بدل العاطفة، يمثل السبيل الوحيد لعبور المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد. فالأوطان لا تُبنى على الشائعات، بل على الحقائق، ولا تنهض بـ”المزاج العام”، بل بالوعي العام.

و يظل الإعلام حجر الزاوية في معادلة الاستقرار والتغيير. فإن أُحسن استخدامه، كان رافعة للتنوير والإصلاح والتماسك. أما إذا تُرك فريسة للغرف المظلمة وحملات التجييش، فسيغدو معول هدم وتفكيك. وبين هذا وذاك، تقف الدولة والمجتمع أمام اختبار حقيقي في تبني إعلام مسؤول، وقرار شفاف، ومؤسسات تقيس الناس بالكفاءة لا بالولاء. فالأوطان تُبنى بالعقول النظيفة لا بالضجيج المنفلت.

الاثنين 14 يوليو 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!