الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

الحرب في السودان: بين صراع الإرادة الدولية والانقسام الداخلي!؟

السفير د. معاوية التوم

مقدمة

منذ اندلاع الحرب التي شنتها مليشيا الدعم السريع المتمردة في 15 أبريل 2023، دخل السودان مرحلة من أخطر مراحله التاريخية وأكثرها تعقيدًا. فالأزمة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية بين القوات المسلحة السودانية والمليشيا، بل تحولت إلى حرب مفتوحة ذات أبعاد إقليمية ودولية، تتشابك فيها المصالح مع الانقسام الداخلي، بما يحمله من كلفة بشرية واقتصادية ودمار واسع للبنية التحتية.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل الحرب السودانية من زاويتين أساسيتين: صراع الإرادة الدولية بما يشمله من تنافس القوى الكبرى والإقليمية على النفوذ والموارد والموقع الاستراتيجي، والانقسام الداخلي الذي يعكس هشاشة الدولة وتعقيدات الهوية وفشل النخب وتفكك النسيج الاجتماعي.

أولاً: السودان كساحة لصراع الإرادات الدولية

1.البعد الجيوستراتيجي
يمثل السودان نقطة تماس مهمة بين البحر الأحمر والقرن الإفريقي وحوض النيل والصحراء الكبرى. هذا الموقع جعله محل تنافس بين قوى كبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين، وقوى إقليمية مثل مصر والسعودية والإمارات وتركيا وإيران. فالصراع في السودان لم يعد داخليًا صرفًا، بل تحوّل إلى مسرح لإعادة رسم خرائط النفوذ في إفريقيا والشرق الأوسط. وما يجري في ظل بيانات الرباعية الدولية القديمة المتجددة وما يتلوه من حراك عبر الاتحاد الأفريقي مثال حي لهذا التداخل.
2.الموارد الطبيعية
يمتلك السودان ثروات ضخمة من الذهب والمعادن النادرة والأراضي الزراعية الخصبة، إضافة إلى النفط والغاز وموقع استراتيجي على البحر الأحمر. هذه الموارد تحولت إلى وقود للحرب بدل أن تكون ركيزة للتنمية، إذ باتت الأطراف الخارجية والداخلية تتصارع عليها عبر التهريب والدعم العسكري والصفقات المشبوهة. ومن دون إطار وطني للحوكمة، ستظل هذه الموارد مصدرًا لدورات متكررة من النزاع والتدخل الخارجي.
3.أشكال التدخل الدولي
•التدخل الغربي: ينظر إلى الحرب كتهديد للاستقرار وأمن البحر الأحمر، ويسعى إلى فرض تسوية سياسية عبر الرباعية الدولية (أمريكا، بريطانيا، السعودية، الإمارات) أو نسخها المعدّلة التي تضم مصر.
٠ روسيا: تحافظ على علاقات مع الدولة القائمة وتستثمر عبر شركات التعدين والمرتزقة مع الدعم السريع ، وتسعى إلى قاعدة على البحر الأحمر.
•الإمارات ومصر: الأولى تتحرك بدافع النفوذ الاقتصادي والسياسي من خلال الدعم السريع والموانئ، بينما تركز الثانية على أمنها القومي والمصير المشترك مع السودان ومصالح شعبي البلدين.
4-صراع الإرادات
الحرب تحولت إلى اختبار لإرادات هذه القوى. فكل طرف يسعى لتوظيفها لصالحه، ما جعل التسوية في السودان مرهونة بالتوازنات الدولية أكثر من الإرادة الوطنية الخالصة.

ثانياً: الانقسام الداخلي وتعقيدات المشهد السوداني

1.هشاشة الدولة وضعف المؤسسات
منذ الاستقلال، عانى السودان من ضعف مؤسسات الحكم وتباين الإرادة السياسية وتراجع هيمنة الدولة على الأطراف. هذا الضعف البنيوي جعل الدولة عرضة للانقسامات والتدخلات.
2.صراع الهوية وتفكك النسيج الاجتماعي
الانقسامات الإثنية والجهوية والدينية لعبت دورًا في تغذية الحرب. النزوح واللجوء الجماعي وانهيار الخدمات وتصاعد خطاب الكراهية عمّق الشرخ المجتمعي. وقد استثمرت قوى خارجية في هذا الضعف عبر إنعاش القبلية والمناطقية لتثبيت نفوذها.
3.فشل النخب السياسية
بعد ثورة ديسمبر 2018، أخفقت القوى المدنية في بناء مشروع وطني جامع، وانشغلت بصراعات السلطة بدل تأسيس مؤسسات ديمقراطية. هذا الفراغ أتاح للقوى الإقليمية والدولية التدخل ورسم معادلات جديدة في الداخل.
4.الحركات المسلحة
رغم اتفاق جوبا للسلام 2020، فإن الحركات المسلحة لم تندمج فعليًا في مؤسسات الدولة، وظلت جزءًا من معادلة الصراع. بعضها انحاز إلى الجيش، وأخرى تقلبت مواقفها، ما ساهم في هشاشة الوضع وعرقلة الاندماج في جيش وطني موحد.

ثالثاً: الرباعية الدولية والحرب

تشكّلت الرباعية الدولية عقب ثورة ديسمبر كآلية لمتابعة التحول المدني، لكنها سرعان ما تحولت إلى إطار لإدارة التوازنات الدولية في سياق الحرب. ورغم عدم الاعتراف الرسمي بها من قبل الدولة السودانية، إلا أنها فرضت نفسها كفاعل مؤثر، وتريد أن تكون وصية على الحل وفرض ارادتها.
•أهدافها: إبقاء السودان ضمن دائرة النفوذ الغربي–الخليجي، تقليص حضور روسيا وتركيا وإيران، وتأمين خطوط الملاحة والموارد في البحر الأحمر.
•تباين المقاصد:
•واشنطن ولندن تتحركان لكبح النفوذ الروسي–الصيني.
•الرياض تركز على حماية أمن البحر الأحمر.
•أبوظبي تتحرك بدوافع اقتصادية–سياسية براغماتية، حتى عبر الشراكة مع التمرد.
•القاهرة تسعى لاستقرار السودان بحكم الأمن المشترك.
هذا التباين جعل الرباعية مظلة غير محايدة، وأضعف من قدرتها على فرض حل متماسك. بل إن استمرار تدخلها قد يفاقم الأزمة إن لم يُحدّد دورها بوضوح، بما يحفظ سيادة السودان وخياراته الوطنية.

رابعاً: السيناريوهات المحتملة

1.استمرار الحرب: وهو السيناريو الأقرب في المدى القصير مع بقاء خطوط الإمداد الخارجية مفتوحة وعجز الأطراف عن الحسم.
2.تسوية دولية مفروضة: توافق القوى الكبرى على وقف إطلاق النار، لكنه يظل هشًّا ما لم يُعالج الانقسام الداخلي وتُراعَ خصوصية البلاد.
3.تفكك الدولة: في حال استمرار الحرب، قد ينزلق السودان إلى سيناريو شبيه باليمن أو ليبيا، مع تعدد مراكز السلطة وتفشي مشروع الحرب الأهلية.
4.بناء مشروع وطني جامع: وهو السيناريو الأمثل، ويتطلب قيادة سياسية موحدة وإرادة داخلية تتجاوز الانقسامات، بما يعزز الوحدة ويعيد بناء الدولة على أسس العدالة والحوكمة الرشيدة وهي السيناريو الأرجح .

خاتمة

الحرب في السودان ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي انعكاس لأزمة بنيوية عميقة تتقاطع فيها الإرادة الدولية مع الانقسام الداخلي. المستقبل مرهون بقدرة السودانيين على إنتاج مشروع وطني جامع يوازن بين الداخل والخارج، ويحصّن البلاد من التبعية والتفكك، ويعزز الحاجة الوطنية لجيش نفاخر به على نحو ما تدير به قيادته هذا الواقع المركب وتكتب منه سفرا خالدا رضي من رضي وأبى من أبى .
إن تعزيز الوحدة الداخلية، وإصلاح المؤسسات، وتبني مبادرة وطنية لا تستثني إلا أمراء الحرب وتجارها عبر القانون ، هو الطريق لإنقاذ السودان. وإلا ستظل البلاد رهينة لصراع الإرادات والنفوذ وتفتت الداخل، بما يهدد وجود الدولة نفسها.
القيادة السودانية اليوم أمام تحدٍ تاريخي لفرض الحل الوطني الداخلي، والتمسك به مهما كانت كلفته، لأنه وحده الكفيل بإنقاذ البلاد من الانهيار وحماية سيادتها وأمنها القومي.

—————
٦ اكتوبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!