
(١ من ٤)
مؤخرا تزايد تخوف الناس من عودة الرباعية للمشهد فتُملي شروطها القديمة الجديدة وتعيد المليشيا وربابنتها لسدة الحكم. كان ذلك على خلفية بيانالرباعية الصادر في ١٢ سبتمبر، وإعلانها الأخير عن اجتماع لها في أكتوبر الجاري. وبسبب ذلك دبت الحماسة في الواقفين على الجانب الآخر، فأعلنوا أنه لابد من “استعادة التحالف الوطني بين قوى الثورة والجيش والدعم السريع، رغم تعقيداته”. ومما جعل الناس يتوجسون خيفةً، ذلك النشاط المحموم لمسعد بولص مبعوث الرئيس الأمريكي. إذ أوحى حراكه أن هناك ما يرتَب وراء ستار، وأن ترامب ينوي أن يفرض على السودان صفقة جاهزة كاملة البنود مثلما فعل في غزة. وأنه بموجب تلك الصفقة سيعاد انتاج الاتفاق الإطاري. ثم جاءت زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان للقاهرة والتي أثارت، هي والبيان الذي أعقبها، وتسريبات أفريكا انتيليجنس، تكهنات كثيرة لا يزال بعضها يعتمل رغمما أعلنه البرهان بعدها في عطبرة في ١٨ أكتوبر، ثم في مطار الخرطوم في ٢١ أكتوبر.
وأيا كان وجه الحق في ما يدور، فهو يكشف عن واقع مر. وهو أن الجيش أصبح اليوم الفاعل الأوحد المهيمن على القرار السياسي السوداني. وأنه وحده الذي يقرر ما إذا كان سيركن لما تمليه الرباعية أو يأباه. وتلك من السُنن الكونية التي جعلها الله تترتب على الحروب الممتدة. فحين تتطاول الحرب – وتستمر سنين عددا – فإنها تقضي تدريجيا على الدولة المدنية بمؤسساتها، وإدارتها، ونخبها، وأحزابها، ورأيها العام. فيكون الحل والعقد كاملا بيد الجيش المنتصر. فهو الذي يقرر موعد إيقاف الحرب، وكيفية ذلك، وشروطه. بل يقرر الوجهة التي تيمم البلاد شطرها بعد الحرب. وما كان جيشنا ليتوقع هذا، فضلا عن أن يكون قد خطط له أو ساق الناس اليه سوقاً. غير أنه يجري عليه ما جرى على غيره، فهي سنة ماضية. هذا هو الخبر غير السار.
أما في الجانب المشرق، فالخبر السعيد هو أن البلد الذي تعركه حربا ضروسا،مثل هذه التي نستشرف نهايتها، يتجدد ميلاده. فيخرج من الحرب كيوم ولد حرا مستقلا. فيتوفر له من الاجماع ومضاء العزيمة ما يجعله يدق الصخر ويفتح ما كان مغلقا. فإذا لم تواتِ السودانيين منذ فجر الاستقلال الفرصة لأن يتخذوا مشروعا وطنيا جامعا، فإن تلك الفرصة قد أظلّت اليوم. فبين أيديهم اليوم لحظة تاريخية لتجديد مضامين الاستقلال وإستحضار مغازيه. واذا شئت قلت إنهم بين يدي استقلال جديد.
ويلقي ما نقول على عاتق الجيش بمسئوليات جسام. أولها، أن يفاضل بين الخيارين اللذين وُضعا أمامه. فهو يقف على مفترق الطريق. فإما أن يستلهم اللحظة التاريخية التي بين يديه ويجدد للبلاد استقلالها، أو يفوتها ويعود بالسودان للأجندة التي كانت على مائدة الحوار قبل الحرب. فترتكس البلاد للتبعية والإرتهان. وثاني المسئوليات التي تترتب على الجيش هي أن يحدد أينيكون موقعه بعد الحرب. فهل سيستمرئ الانفراد بالقرار ويستمر في ذلك، أم أنه سيعمل على عودة الأمور الى طبيعتها، فيستعيد للدولة مدنيتها المفقودة. فإذا كان حالنا اليوم نتيجةً لسنة كونية، ليس للجيش فيها يد، فإن ما يأتي من بعد قرارٌ حر يتخذه الجيش وحده. وذلك القرار هو الأخطر في المسيرة الدستورية لهذه الأمة. بل هو القرار المصيري الفارق بين ازدهار السودان واندثاره. فهو الذي يجعل السودان إما يستوي محلقا بجناحين قويين أحدهما مدني والآخر عسكري، أو يجعله مهيض الجناح المدني، يتخبط بجناح واحد لا يجدي نفعا مهما كان قويا.
ولا نتناول هذا الموضوع بالغ الأهمية من مداخل السياسة أو بأساليب الصحافة. فهو أجلّ من أن يُقطع فيه برأي بناء على الموقف السياسي، أو أن تُلتمس له طريق الصحافة لكثرة الماشين فيها. وإنما نتعرض له بدراسة بينية interdisciplinary تجمع بين الفقه الدستوري المقارن ومباحث الاستقراء التاريخي. فذلك أجمع للرأي وأرجى أن يهدينا سبيل الرشاد. وبسبب مدخلنا هذا يجيء تفصيل وبسط ما أجملناه أعلاه في حلقات أربع. فحتى نتفحص ما هو ماثل بين أيدينا من أمر السودان اليوم لا بد لنا من أن نقف على ما كان من أمر الأجيال التي سبقتنا مما انتهى بنا لهذه الحمأة الوبيلة. ولا بد لنا من أن نتوسل له بما هو نظري من الأفكار، وبما هو عملي من التجارب، وبما هو مستقر من المبادئ؛ مما يُستمد من كسب الأمم الأخرى. فما نحن بِدعاً من الأمم. ونرجو من القارئ أن يصبر على نهجنا هذا ما استطاع اليه سبيلا. فهو إن فعل انفتحت له المغاليق.
أذكر أنني دعيت بعد ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ للحديث الى لفيف من رجال ونساء الصحافة في السودان التقوا في قاعة غصت عن آخرها يتباحثون في أمر الاعلام ومساره في المرحلة الجديدة التي كانوا يتأهبون لارتيادها. قلت أول ما قلت إن الاعلام السوداني يحتاج في المرحلة الماثلة “لسردية” جديدة. فمثلما أن “سردية الإنقاذ” قد كسدت، فإن “سردية ثورة ديسمبر” لم تعد تلهب خيال الشعب السوداني كونها قد جُيرت لتيار ضيق أثقلها بحمولاته الفكرية وأثخنها بأخطائه السياسية. ولو اتسع المجال في ذلك اللقاء لأوضحت ما كنت أعنيهبكلمة “سردية” مستشهدا بنظريةٍ محدثةٍ في التاريخ السياسي المعاصر – او قل “تاريخ المستقبل” كما صار يسمى – ابتكرها يوفال هراري في كتابه الصادر عام ٢٠١٣ والمسمى “العاقل: تاريخ مختصر للبشرية” Sapiens: A Brief History of Mankind. تُرجم ذلك السِفر النفيس لخمسٍ وستين لغة، ونشرت منه ٢٥ مليون نسخة. وأستميح القارئ عذرا في ان أجعل صدر هذه الحلقة الأولى للتأسيس الفكري والنظري لمفردة “السردية”، مما لم يتسع له المجال في ذلك اللقاء.
قدم يوفال هراري، ضمن طيف مبهرٍ من الرؤى، فكرةً ألمعيةً فحواها ان “الأسطورة” myth هي أساس التعاون البشري. وإذا كان المعنى الشائع لتلك الكلمة في العربية والانجليزية يتمحور حول الخرافة أو القصة الخيالية، فان هراري أعطاها معنى اصطلاحيا. فهو إنما يقصد بها المعتقد المشترك الذي لا يوجد في الطبيعة وانما يستكنُّ في عقول افراد المجموعة البشرية المحددة. وهو لا يقول برأي في صحة او قيمة أيا من هذه المعتقدات، أو قل “الأساطير”، وانما كل ما يعنيه منها هو انّ توفرها لدى المجموعات البشرية هو سر نجاح الانسان العاقل Homo Sapiens . فهي التي مكنت البشرية في ماضيها وحاضرها، من ان تتعاون في جموع غفيرة؛ وكذلك تفعل في مستقبلها. فالأمم – قل البريطانية، أو الإيرانية، أو الروسية مثلا – ليست كيانات موجودة في الطبيعة، وانما هي “اساطير” في مخيلات مجموعات معينة من البشر تجعلهم يعتقدون على نحو مشترك في وحدتهم ووجودهم وجدوى أن يتعاونوا على رفعة كيانهم. ويقال مثل ذلك عن الشركات، وحقوق الانسان، والأوراق النقدية، وحاليا العملات الإلكترونية من شاكلة Bitcoin التي لم يعد لها من الوجود المادي أدنى نصيب. لكن الايمان بهذه “الأساطير” – وبحسب هراري – هو الذي يجعل البشر يتعاونون معا ليس بالمئات او الآلاف، وانما بالملايين والمليارات.
ولعل ما يقوله هراري اليوم من أن “الأسطورة” هي أساس التعاون البشري يذكرنا بما كتبه ابن خلدون بالأمس – وهو سجين قلعة ابن سلامة بالجزائر ١٣٧٥-١٣٧٨م – من أن “العصبية” هي أساس العمران البشري. ومصطلح “العصبية” يشير في ظاهره الى رابطة تقوم على التضامن القَبَلي أو العِرقي، تعطي الجماعة قدرة على الحشد السياسي والقتالي اللازم لتأسيس سلطة. لكن ابن خلدون يُعنى بها من حيث كونها ظاهرة تنتج وجودًا سوسيولوجيًا قابلاً للملاحظة والتتبع التاريخي. وربما تلتقي أطروحتا هراري وابن خلدون في انهما محاولة للإجابة على سؤالٍ محوريّ هو كيف ينشأ التماسك الاجتماعي الذي يمكّن البشر – من دون خلق الله على هذه البسيطة – من التعاون في جماعات لا نهائية. غير أن الالتقاء بين النظريتين يتوقف عند هذا الحد. فهما تختلفان جذريًّا في المصطلح، والمنهج، والافتراضات الأنطولوجية. ولعل ذلك مجال يغوص فيه أهل الاختصاص لعقد مقارنة بين النظريتين يقدمون لنا فيها ما هو طارف وتليد.
غير أن ما يعنينا في عجالتنا هذه، وأعيننا على السياق السوداني، انه بينما يؤسِّس ابن خلدون لكيفية تحول العصبية ككيان سُلالي الى ناشئة اجتماعية – لدى الأقارب – تحقق لهم الغلبة على الغرباء، فان هراري ينظر في كيفية توليد الأسطورة ايمانا جماعيا – لدى الأباعد – يجعل الثقة ممكنة بينهم، فيتمكنون من انشاء كيان غير سُلالي، يقوم على الإيمان بعقيدة مشتركة.
والكمال المطلق ليس مما يلتمس في نظريات البشر. ولعل كلا من ابن خلدون ويوفال هراري هو ابن بيئته. فابن خلدون يحدثنا عن ملاحظاته المستمدة من تاريخ الدول الإسلامية التي تعاقبت في عصره، ومن ثم نلحظ ان نظريته غير قابلة للمقايسة scaleability على أشكال الدولة الحديثة. ويمكننا ايضا انتقاد نظرية هراري على أساس انها تقوم على الافراط في الاختزال الرمزي لفكرة “الأسطورة” لدرجة اغفلت معها البنى المادية الأخرى للمجتمعات القديم منهاوالمعاصر.
مهما يكن فان “فكرة” الأسطورة التي قدمها هراري جديرة بالتأمل، بل قمينة بأن نجعلها ضمن أدواتنا لتحليل ودراسة حالتنا السودانية الراهنة. غير انه لا يروق لي “مصطلح” الأسطورة الذي يستخدمه هراري، وقد لا يروق لكثيرين. ذلك بسبب ما يحتشد به من ظلال وأخيلة وما يضج به من مفاهيم معرفية. ومن ثم – وللغرض المحدود الذي بين أيدينا – نعدل عنه الى مصطلح “السردية الوطنية” National Narrative. وهو ليس مجرد اختلاف اصطلاحي. ففيما تشبه “السردية الوطنية” “الأسطورة” عند هراري في كونها تتألف من مجموعة من التصورات والرموز والطقوس والمؤسسات التي تُشكّل “قصة مشتركة” حول من نكون ولماذا نتشارك مصيراً واحداً، الا انها تختلف عنها من حيث أنالأسطورة سرمدية، فيما أن السردية قابلة للفناء. فالسردية تشهد دورات من الطلاقة والخمول. فهي بعد أن تزدهر تحيق بها عوامل البلى فتضمحل وتتآكل، ثم يمكنها من بعد أن تتجدد. ولعل “السردية” تقترب في هذه الناحية من”العصبية” عند ابن خلدون. فابن خلدون يرى أن دورة العمران تبدأ بـ “الطاقة والعصبية” وتنتهي بـ “الخمول والترف”. وهكذا فان العصبية عنده قابلة لأن تتفكك عبر الأجيال لتؤذن بدورة سلالية جديدة. الآن جاز لنا أن نغوص مع القارئ في مباحث سرديتنا السودانية مستخدمين الأداة والاصطلاح الذي توافقنا عليه أعلاه.
بدأنا نطور سرديتنا الوطنية الأولى، التي دعنا نسميها “سردية الاستقلال”،بمجرد تكون احساسنا الوطني المعاصر عقب ثورة اللواء الأبيض في ١٩٢٤. اذ مثلت تلك الثورة الشرارة الرمزية التي ايقظت وعي النخبة وأوجدت اول أساس للتعاون الجمعي بين أفراد الأمة السودانية ضد السُلطة الاستعمارية والهيمنة الأجنبية. فشرعنا في صياغة القصّة الرسمية لسرديتنا تلك جاعلين تحقيق الاستقلال هدفنا التاريخي، ومن إنجازه مشروعنا الوطني. وتولت ذلك السرد الصحافة الوطنية – بدأ من صحيفة الحضارة السودانية، ثم الحضارة، ثم الفجر، ثم النيل – ثم مؤتمر الخريجين. فتم انتاج خطاب فحواه “الحرية السياسية، ثم الحكم الذاتي، ثم إنهاء الهيمنة الاستعمارية”. وتمثلت عناصر تلك السردية الوطنية في هدف مركزي واضح تسهل التعبئة حوله هو الاستقلال، وفي عدو خارجي مشترك هو الحكم الثنائي الذي أسهم وجوده في الغاء التباينات الداخلية مؤقتًا.
نجحت سردية الاستقلال في تعبئة قطاعات مركزية معتبرة حول مفاوضات الحكم الذاتي وانتخابات ما قبل الاستقلال. وقد عبر الشعب السوداني بمشاركته الواسعة في تلك الانتخابات عن رضاه عن الديمقراطية طريقا للحكموجعل ذلك من مضامين سردية الاستقلال. ثم تم إعلان الاستقلال في اول يناير ١٩٥٦، وتنسّم الشعب السوداني بزهو وفخار فرحة أن يكون حرا مستقلا. كانت تلك هي المضامين المحدودة التي احتوتها سردية الاستقلال. وكانت هي أغراضها المباشرة. وقد تحققت تلك الأغراض بنجاح منقطع النظير. غير انسردية الاستقلال قد توقفت عند ذلك الحد ولم تمض قدما لتنتج مشروعا سودانيا جامعا لما بعد الاستقلال. إذ بليت سريعا وتآكلت مضامينها وفقدتمؤهلات “المعتقد المشترك” الذي يجعل السودانيين يتعاونون كأمة في مسيرتهم فيما يلي انجاز الاستقلال.
والسبب الأساسي في التآكل السريع لسردية الاستقلال هو خلوها من المضامين الجامعة، إلا قليلا. ففيما كان بناء سردية الاستقلال على أشده، مما يقتضي وحدة مطلقة، انقسمت النخبة الى تيارين أحدهما مزهوٌ بالثورة المهدية ويتمثل مواقفها، والآخر يستحضر موقف الميرغني الكبير. وعلى هذا الانقسام التاريخي القديم تأسس انقسام حديث إزاء أعقد قضايا الاستقلال. ثم استتبع ذلك الفشل، فشلا آخر في إيجاد رموزٍ وطنية مجمع عليها. فبالرغم من أن ثورة اللواء الأبيض أوجدت أبطالا مثل علي عبد اللطيف، وعبد الفضيل الماظ، ورموزا للنضال الثقافي من أمثال خليل فرح صاحب القصيدة الخالدة “عزة في هواك”، الا ان الحركة الوطنية – وبسبب الصراع السياسي – لم تبرز قيادة جماعية للسودانيين متفقة فيما بينها، ومتوافق عليها من الشعب. ومن ثم افتقرت السردية الوطنية للمضامين الكافية عشية الاستقلال، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى افتقدت من يجسد وحدتها ويلهم الناس معتقدا مشتركا فجر الاستقلال.
وبينما انهارت سردية الاستقلال في السودان، نجحت سرديات الاستقلال في بلاد أخرى وألهبت الوجدان الوطني بعد الاستقلال لتضحي أساسا لمعتقد مشترك يقوم عليه النظام السياسي والنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. ومن تلك البلدان الولايات المتحدة قديما، وجنوب افريقيا حديثا. لكن دعونا نختار “سردية الاستقلال الهندي” كنموذج لسرديات الاستقلال الناجحة، كون أناستقلال الهند الأقرب لاستقلالنا زمانا، اذ انه تحقق عام ١٩٤٧، ولكون الهند كانت الأشبه بنا واقعا. ونخصص الحلقة التالية للمقارنة مع السردية الهندية لنعرف لماذا فشلت سردية الاستقلال السوداني في أن تستمر في إلهام المخيالالوطني، فيما نجحت سردية الاستقلال الهندي في ذلك أيما نجاح.