الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

التهديدات الجيوسياسية وآليات تحصين السودان منها.

محمد الحاج

يشكّل تأسيس قوة المهام المشتركة في القرن الأفريقي على يد الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تم دمجها لاحقاً ضمن القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، محطة مفصلية في مسار التدخل العسكري الأمريكي في القارة السمراء. فرغم الشعارات التي تتحدث عن الاستقرار ومحاربة ما يسمى بالإرهاب، إلا أن العديد من المراقبين يرون في هذا التمدد مظهراً من مظاهر إعادة إنتاج النفوذ الاستعماري بصيغة جديدة، تستهدف التحكم في الموارد الطبيعية والبشرية للقارة، وتوظيفها لخدمة رفاهية المواطن الأمريكي، ولو جاء ذلك على حساب كرامة وإنسانية الشعوب الأفريقية التي لا تزال تعاني من التهميش والفقر وبقايا الحقبة الاستعمارية.

السودان، بما يمثّله من موقع استراتيجي على البحر الأحمر وقربه من منطقة القرن الأفريقي، يتأثر بشكل مباشر بهذا التمدد الأمريكي. فوجود قواعد عسكرية أمريكية في دول الجوار، وانتشار نفوذ أفريكوم، يطرح تحديات أمنية وسياسية حقيقية على السيادة الوطنية السودانية. التدخلات المتزايدة تخلق بيئة إقليمية متوترة تُهدد استقرار البلاد، كما تفتح المجال أمام محاور النفوذ العالمي، وخاصة التنافس الأمريكي الصيني، لتحويل السودان إلى ساحة صراع غير معلنة. وفي ظل الانخراط الأمريكي في قضايا تتعلق بمكافحة القرصنة أو دعم الحكومات المتحالفة، فإن الخطاب المعلن يتناقض في كثير من الأحيان مع الواقع، حيث تتكشف الأهداف الحقيقية المتعلقة بضبط تحركات القوى العالمية الأخرى، والسيطرة على ممرات الطاقة وخطوط الملاحة، خصوصاً تلك المتصلة بالنفط في جنوب السودان وتأثيره المباشر على السودان الشمالي.

السكوت عن هذا التوسع العسكري قد ينعكس سلباً على الأمن السوداني، خاصة إذا ما أصبحت السواحل السودانية ضمن مخطط الرقابة الاستراتيجية الأمريكية، مما يقيد حرية القرار الوطني ويفرض واقعاً جديداً تتناقص فيه سيادة الدولة على مواردها ومياهها الإقليمية. وفي ذات الوقت، فإن التعاون مع قوة كأفريكوم يضع السودان في مرمى الهجمات المعادية للنفوذ الأمريكي، مما يزيد من احتمالية تهديد أمنه الداخلي، سواء عبر النشاط الإرهابي أو عمليات التجسس والتغلغل الاستخباراتي.

للخروج من هذا المأزق الجيوسياسي، يتطلب الأمر تبني رؤية استراتيجية وطنية واضحة، تقوم على مبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز لأي من المحاور المتصارعة. يجب العمل على تقوية البنية الدفاعية السودانية، خاصة القدرات البحرية لحماية الشواطئ والموانئ، مع سن تشريعات صارمة تنظم التعاون العسكري مع القوى الأجنبية وتضع قيوداً واضحة على تمركز القوات غير الوطنية داخل البلاد. كما أن دعم مبادرات إقليمية تعنى بأمن البحر الأحمر سيكون خطوة مهمة نحو بناء تحالفات مبنية على المصالح المشتركة بين الدول المطلة عليه، بما يضمن حماية أمن السودان دون الدخول في محاور الهيمنة.

في ظل اشتداد صراعات النفوذ في أفريقيا، يبدو أن التحدي الحقيقي أمام السودان ليس فقط في مواجهة التمدد الأمريكي، بل في القدرة على صياغة سياسة واقعية تحفظ له موقعه، وتصون استقلاله، وتؤسس لشراكات ذكية تخدم تطلعاته لا تُفرّط في سيادته. التوازن والوضوح والرؤية المستقبلية هي المفاتيح التي ينبغي أن تتحرك بها القيادة السودانية أمام هذا الواقع المعقد.

٢٥ يونيو ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!