
مقدمة
اتساقا مع ما عبر عنه وزير خارجية السودان والتعاون الدولي ، محي الدين سالم عن توصيفه لما يدور بالبلاد بأنه غزو خارجي .. يبدو هذا التعبير اكثر دقة لان ما يجري بالبلاد اليوم لم يعد مجرد نزاع داخلي بين فصيلين كما تسعي عكسه الرواية المطففة المساندة للعدو. بل محطة تعكس تداخل مصالح إقليمية ودولية وتحول النزاع إلى ساحة للتدخل الخارجي الموجّه وتقاطع المصالح لكبار الفاعلين الدوليين . الذين استخدموا العديد من الأساليب والمراحل وصولا الي الحرب الاهلية كآخر مطمح في مشروعهم . يتم هذا في ظل غياب ربما وطني وايضا إقليمي دولي واضح بكنه وعواقب هذه التدخُّلات ومآلاتها المستقبلية على أمن الاقليم ، يصبح من الضروري تأطير المصطلحات القانونية والسياسية المركزية بدقة، والواقع الداخلي على المشهد — التمرد، الغزو، التدخل الخارجي، الحرب بالوكالة، وجرم العدوان — والاستيلاء على السلطة بالقوة والاستيطان ، كلها حاضرة في مشهدنا بشدة، ثم قراءة تطبيقها على ما يجري في السودان.
1) ما المقصود بـ«الغزو» و«العدوان» في القانون الدولي؟
قانونياً، جملة مفردات تحكمها منظومة جوس أدفيلوم (jus ad bellum) وميثاق الأمم المتحدة. العدوان/الغزو يُعرف تقليدياً بأنه استخدام دولة لقواتها المسلحة لاعتداء على أراضي دولة أخرى، أو أي احتلال عسكري أو عمل يرقى إلى تهديد وحدة وسلامة الدولة الأخرى. هذا الإطار يتبلور في نصوص مثل المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر استخدام القوة أو النفوذ، وفي تعريف جريمة العدوان كما صاغته الآليات الدولية.
مهم: المصطلحات لا تقتصر على «تواجد قوات خليط مع مرتزقة مع لافتات وطنية» — فهذه مهمة وظيفية، والتدخّل الذي يمثّل شكلًا من أشكال العدوان يمكن أن يتجسد أيضاً عبر تزويد فصيل مسلّح بسلاحٍ متقدّم، تمويلٍ لوجستي، أو تنظيمٍ قيادي يغيّر التوازن العسكري لصالح جهةٍ داخل دولة أخرى. في الحالات المتقدمة، يصبح هذا التمويل والتسليح جزءاً من سلسلة تحميل المسؤولية الجنائية والسياسية على المنظومات او الدول الراعية وما اكثرها في سياقنا.
2) ما معنى «التدخل الخارجي» و«التدخل المحظور»؟
التدخل الخارجي يشمل أي تدخل دولة أجنبية في الشؤون الداخلية لدولة أخرى بوسائل تتراوح بين الدبلوماسية والاقتصاد او النفوذ السياسي إلى الاستخدام العسكري المباشر أو غير المباشر. التدخل المحظور هو ذلك الذي يستخدم وسائل قسرية أو عسكرية او مادية لتغيير سياسة أو حكم دولة أخرى، سواء عبر قوات منتظمة أو عبر وكلاء مسلحين. مبدأ حظر التدخّل يستند إلى سيادة الدول وعدم جواز فرض الإرادات بالقوة كما ينص ميثاق المؤسسة الدولية ومبدأ سيادة الدول والمحافظة علي سيادتها وترابها.
3) «حرب بالوكالة» و«التمويل والإسناد العسكري و الإعلامي/الإيديولوجي» — كيف تعمل الآلة؟
حرب بالوكالة (proxy war) هي حين تتدخل دولة أو مجموعة دول بدعم فصائل او تنظيمات محلية تُقاتل نيابةً عنها. هذا الدعم لا يقتصر على الأسلحة فقط، بل يشمل التدريب، الاستخبارات، التمويل، وتغطية إعلامية تُضخّ للشرعنـة السياسية أو جعل الفصيل يبدو كـ«قوة تحرير». وجود شبكة لوجستية وتمويل مستدام يجعل الفصيل له قدرة على التصعيد والاحتفاظ بالأراضي، ما يقرب وضعه من كيان شبه-دولي داخل الدولة المستهدفة وهو ما يحدث الان من خلال سياسات التمرد على الارض والخطط المرحلية التي توضع له والخيارات التي توفر له من قبل الراعي الاقليمي الامارات .
4) قراءة واقع السودان وفق هذه المصطلحات
أدلّة وتقارير دولية أظهرت أن النزاع السوداني يفوق كونه صراعًا داخلياً بين الجيش وميلشيات؛ هناك تداخل واضح لشبكات دعم خارجية. تقرير خبراء الأمم المتحدة رصد ترسخ سيطرة فصيل مسلح (قوات الدعم السريع) على مساحات استراتيجية وممرات إمداد وإسناد ، عبر بعض دول الجوار كما هو الحال في حدود البلاد مع ليبيا ، تشاد وجنوب السودان، يراد له ان يحوّل طبيعة القتال ومركز ثقل القوة على الأرض.
تحقيقات منظمات حقوقية ومراكز بحثية من كبريات الجامعات مثل ييل الأمريكية والصحة العالمية ، اطباء بلا حدود العدسة الدولية والغارديان وواشنطون بوست ونواب في الكنغرس الأمريكي وبرلمانيين من دول عديدة .. جميعها وثّقت أيضاً، وصول أسلحة متقدمة وإعادة تصدير معدات عبر دول إقليمية، وأن أنماط الإمداد ترافقها تغطية إعلامية وسياسية دعمت روايات شرعنـة هذه القوات وتسويقها او اعادة انتاجها . منظمات مثل منظمة العفو الدولية نشرت تحقيقات عن إعادة تصدير أسلحة ووصول معدات متطورة تم استخدامها في ساحات القتال وكذلك التلغراف.
بل إقرار الامين العام للامم المتحدة بان اطراف عديدة تنخرط في هذا الصراع.جامعة ييل تقول ان الأدلة في الفاشر تشير لحجم قتل لا يقارن إلا بالمذابح والإبادة في رواندا. بل تقارير صحفية وتحقيقات دولية (وأخرى مسرّبة من أوساط أممية) أشارت إلى دورٍ ملحوظ لدول إقليمية في توفير دعم لوجيستي ــ سياسي وعملياتي ــ لقوى مسلّحة في السودان، وهو ما يبرر التوصيف بأن النزاع صار جزئياً مشروعَ غزو أجنبِي وظيفي عبر وكلاء محليين وإقليميين مكتمل الأركان .
5) تبعات هذا التكييف (لماذا يجب أن نصفه «غزو/تدخل خارجي»؟)
- مسؤولية دولية: تسمية الفعل «تدخلاً محظوراً» أو «دعم غازي» تُثير مسؤوليةٍ سياسية وقانونية على الدول الراعية، وتفتح الباب لإجراءات عقابية ودبلوماسية وتعويضية للدولة والسكان وربما إحالات جنائية في الإطار الدولي.
- تطبيق آليات القانون الدولي: إذا ثبت تورط دولي في تسليح أو تمويل فصائل ترتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، تصبح هناك دعاوى لمساءلة الدول أو لاستدعاء محاكم دولية، بتسمية فريق قانوني بإسناد دولي للقيام بالتحرك الوطني.
- حاجز أمام الحلول الهشّة: الحكم بأن النزاع مدعوم خارجياً تجاوز مراحله ويجعل الحل السياسي مشروطاً بقطع خطوط الدعم الخارجية وهي في تنامي ، وإلا فستبقى أي هدنة هشة وسريعة الانهيار وتقوى الجاني.
- التحذير الأخلاقي والإنساني: التدخل الذي يحوّل النزاع إلى مشروعٍ يمتد ضحاياه بالملايين (نزوح، لجوء ، مجاعة، عنف جنسي وجنساني و قصف مدنيين ونهب ) يتطلب استجابة دولية مختلفة وصارمة لمنع تفاقم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير فضلا عن الجرائم الإنسانية.
خاتمة: ماذا يجب أن يفعل المجتمع الدولي والمراقبون؟
حيال الذي يجري في البلاد لابد من اعادة تكييف هذه الحالة في حجمها وسياقها القانوني والسياسي والأمني العسكري، حتى نؤسس استراتيجيتنا الوطنية وخططنا العسكرية والمدنية على ضوء ما نخلص اليه من نتائج .. ليس صحيحا ان البلاد في مواجهة تمرد او مليشيا بقدر ما هو جماع التدخل الخارجي وحرب الوكالة من خارج الحدود والغزو والعدوان المفتوح، تظل شاخصة في هذا الصراع . وبناء على تعريف المخاطر نضع ادوات المواجهة بما تستحق من تدابير على كافة المستويات :
• تفعيل وتوسيع آليات التحقيق المستقلة وتثبيت أدلةٍ تربط بين الإمداد الخارجي والجرائم المرتكبة على الأرض، مع عرض هذه الأدلة على مجلس الأمن والهيئات القضائية الدولية.
• فرض احترام حظر توريد السلاح وتطبيق عقوبات فعلية على شبكات التصدير الوسيطة التي تنتهك قرارات الأمم المتحدة.
• إعادة بناء وعي الرأي العام الدولي: ضرورة تغيير الخطاب من «نزاع داخلي» إلى «نزاع متأثر بتدخلات خارجية» حيثما تثبت الأدلة، لأن التسمية القانونية تؤثر مباشرة على أدوات الردع والمساءلة. لنستفيد من الحالة الحالية التي اعادت مأساة البلاد الي المشهد الدولي بتعاطف مختلف واعتراف بيّن أوربي-أمريكي وإقليمي بحقيقة ما جرى ويجري.
. رفع الوعي المؤسساتي الوطني والعقل الجمعي، بعد كل هذه الحصيلة البشرية والمادية المهولة والتضحيات الكبيرة ومترتباتها الممتدة لأكثر من عامين ونصف. والتي ستبقى لعقود تشكل واقع البلاد ومستقبلها. بكل هذه المآسي والآلام والمعاناة للضحايا من المدنيين، لابد للدولة من التئام عاجل بثقل قانوني سياسي عسكري وأمني استراتيجي وخبراتي وإعلامي لتسمية (فريق عمل قومي احترافي )باسناد من بيوت خبرة دولية لاعادة تعريف الرواية والسردية السودانية على خلفية هذا التعريف بكل تبعاته وما يعكسه الواقع المأساوي من مجريات بشعة وتوصيف كارثي، جعل البلاد ثالث اكبر أزمة دولية بعد أوكرانيا وغزة. واتخاذ التدابير الوطنية للتعامل معه على كافة المستويات وطنيا واقليميا ودوليا.
————-
١٥ نوفمبر ٢٠٢٥ م



